- المسيح الدجال في رأي الإمام محمد عبده:
ترى المسيحية أن المسيح الدجال أو المسيح الدجال أو المسيخ الدجال شخص مضاد للمسيح وأنه ظهر أو سيظهر ليقود قوى الشر ضد قوى الخير.
ففكرة المسيح أو المسيخ الدجال فكرة مسيحية، وقد روى مسلم حديثاً عنها، وقد تعرض الأستاذ الإمام محمد عبده لهذا الحديث وقال: إن هناك تخريجين لهذا الحديث:
1 ـ أولهما أنه حدي آحاد متعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا القطعي، لأن المطلوب فيها اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.
2 ـ ثانيهما أن الدجال ليس إلا رمزاً للخرافات والدجل، وقد وجد ذلك وسيوجد عدة مرات، وهو يزول بشريعة الاسلام الغراء وبالقرآن والحديث وجهود العلماء والمفكرين وعلى هذا فلا وجود لما يسمى المسيح الدجال وهو الرأي الذي يرتضيه أكثر العلماء.
- رفع روح عيسى لا جسمه:
ونجيء الآن لإيراد بعض التفاصيل والأدلة التي ترى أن عيسى (ع) مات كما مات كل الأنبياء والصالحين وغيرهم، وأن جسمه قد دفن كما دفنت أجسام الأنبياء وغيرهم، وأن الذي رفع هو روحه:
وبادئ ذي بدء أذكر أن ندوة كبيرة أقامتها مجلة (لواء الاسلام) في أبريل سنة 1963م عن هذا الموضوع، وقد اشترك فيها مجموعة من العلماء الأفذاذ، واتفق الجميع على مبدأين مهمين هما:
1 ـ ليس في القرآن الكريم نص يلزم باعتقاد أن المسيح (ع) قد رفع بجسمه إلى السماء.
2 ـ عودة عيسى (ع) جاءت بها أحاديث صحاح، ولكنها أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية فلا تثبت بهذه الأحاديث.
وعلى كل حال فالعلماء الذين يرون أن الذي رفع هو روح عيسى لا جسمه يعتمدون أساساً على الآيات القرآنية التالية:
ـ (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مرجعكم) آل عمران/ 55.
فهذه الآية تذكر بوضوح ما سبق أن ذكرناه، أي وفاة عيسى وتطهيره وحمايته من أعدائه، وتجعل عيسى ضمن أتباعه إلى الله مرجعهم.
ـ (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن أعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد) المائدة/ 117.
وواضح من الآية وفاة عيسى ونهاية رقابته على أتباعه بعد موته وترك الرقابة لله.
ـ وقوله تعالى حكاية عن عيسى: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) مريم/ 33.
والآية واضحة الدلالة على أن عيسى ككل البشر يولد ويموت ويبعث، وكل ما يخالف ذلك تحميل للفظ فوق ما يحتمل.
وقد اشترك في هذا الرأي كثير من العلماء في العصور الماضية وفي العصر الحديث، وفيما يلي نسوق بعض تفاسير لهذه الآيات الكريمة كما نسوق آراء العلماء الأجلاء.
يقول الإمام الرازي في تفسير الآية الأولى: إني متوفيك أي منهي أجلك، ورافعك أي رافع مرتبتك ورافع روح إلي، ومطهرك أي مخرجك من بينهم، ومفرق بينك وبينهم، وكما عظّم شأنه بلفظ الرفع إليه خبّر عن معنى التخليص بلفظ التطهير، وكل هذا يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته، ويقول في معنى قوله تعالى: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) المراد بالفوقية، الفوقية بالحجة والبرهان ثم يقول: واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله: (ورافعك) هو رفع الدرجة والمنقبة لا المكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والمكانة.
ويقول الآلوسي: ان قوله تعالى (إني متوفيك) معناها على الأوفق أني مستوف أجلك، ومميتك موتاً طبيعياً، لا أسلط عليك مَن يقتلك، والرفع الذي كان بعد الوفاة هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصاً وقد جاء بجانبه قوله تعالى (ومطهرك من الذين كفروا) مما يدل على أن الأمر تشريف وتكريم.
ويرى ابن حزم وهو من فقهاء الظاهر: إن الوفاة في الآيات تعني الموت الحقيقي، وأن صرف الظاهر عن حقيقته لا معنى له، وأن عيسى بناء على هذا قد مات.
وقد تعرض الأستاذ الإمام محمد عبده إلى آيات الرفع وأحاديث النزول، فقرر الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعد ذلك وهو رفع الروح.
ويقول الأستاذ الشيخ محمود شلتوت: ان كلمة (توفى) قد وردت في القرآن كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا بجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر، ثم يسوق عدداً كبيراص من الآيات استعملت فيه هذه الكلمة بمعنى الموت الحقيقي، ويرى أن المفسرين الذين يلجأون إلى القول بأن الوفاة هي النوم أو أن في قوله تعالى: (متوفيك ورافعك) تقديمً وتأخيراً، يرى أن هؤلاء المفسرين يحملون السياق ما لا يحتمل، تأثراً بالآية (بل رفعه الله إليه) وبالأحاديث التي تفيد نزول عيسى، ويُرَدّ على ذلك بأنه لا داعي لهذا التفكير، فالرفع رفع مكانة، والأحاديث لا تقرر الرفع على الاطلاق.
ويقول فضيلته إنه إذا استدل البعض بقوله تعالى (وجيهاً في الدنيا والآخرة من المقربين) آل عمران/ 45، على أن عيسى رفع إلى محل الملائكة المقربين. أجبناه بأن كلمة (المقربين) وردت في غير موضع من القرآن الكريم دون أن تفيد معنى رفع الجسم، قال تعالى:
ـ (والسابقون السابقون أولئك المقربون) الواقعة/ 10-11.
ـ (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة ونعيم) الواقعة/ 88-89.
ـ (عيناً يشرب بها المقربون) المطففين/ 28.
فيقول: ليس في القرآن نص صريح على أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء، وإنما هي عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الاسلام بثها في المسلمين.
ويضيف هذا الباحث قوله: وإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يصلح العالم فمن السهل أن يصلحه على يد أي مصلح ولا ضرورة اطلاقاً لنزول عيسى أو أي واحد من الأنبياء.
ويتفق الأستاذ أمين عز العرب مع اتجاهات الإمام محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا فيقول: أستطيع أن أحكم أن كتاب الله من أوله إلى آخره ليس فيه ما يفيد نزول عيسى.
ويثير الأستاذ محمد أبو زهرة نقطة دقيقة حول الأحاديث السابقة فيقرر أنها ـ بالاضافة إلى أنها أحاديث آحاد وليست متواترة ـ لم تشتهر قط إلا بعد القرون الثلاثة الأولى، ويمكن ربط هذا بما ذكره السيد محمد رشيد رضا عن محاولات النصارى، فإنهم في خلال هذه القرون كانوا يحاولون إدخال بعض النصارى، فإنهم في خلال هذه القرون كانوا يحاولون إدخال بعض عقائدهم في الفكر الاسلامي بطريق أو بآخر بدليل أن هذه الأحاديث لم تشتهر في القرون الثلاثة الأولى مع ما وصلت له العقيدة الاسلامية من دقة وعمق في هذه القرون، ويختم الأستاذ محمد أبو زهرة كلامه بقوله إن نصوص القرآن لا تلزمنا بالاعتقاد بأن المسيح رفع إلى السماء بجسده، وإذا اعتقد أحد أن النصوص تفيد هذا وترجحه فله أن يعتقد في ذات نفسه ولكن له أن يلتزم ولا يُلزم.
ويقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي: ليس في القرآن نص قاطع على أن عيسى (ع) رفع بجسمه وروحه وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه، والظاهر من الرفع أنه رفع درجات عند الله، كما قال تعالى في إدريس: (ورفعناه مكاناً علياً) فحياة عيسى حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء.
ويقول الأستاذ عبد الوهاب النجار: إنه لا حجة لمن يقول بأن عيسى رفع إلى السماء لأنه لا يوجد ذكر للسماء بإزاء قوله تعالى: (ورافعك إليّ) وكل ما تدل عليه هذه العبارة أن الله مبعده عنهم إلى مكان لا سلطة لهم يه، وإنما السلطان فيه ظاهرا وباطناً لله تعالى، فقول تعالى (إليّ) هو كقول الله عن لوط (إني مهاجر إلى ربي) العنكبوت/ 26. فليس معناه أني مهاجر إلى السماء بل هو على حد قوله تعالى (ومَن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله..) النساء/ 100.
ويقول الأستاذ الشهيد سيد قطب عند تفسير الآية الأولى من الآيات الثلاث السابقة: لقد أرادوا قتل عيسى وصلبه، وأراد الله أن يتوفاه وفاة عادية ففعل، ورفع روحه كما رفع أرواح الصالحين من عباده، وطهره من مخالطة الذين كفروا، ومن البقاء بينهم وهم رجس ودنس.
ونجيء الآن إلى الباحث الأستاذ محمد الغزالي وله في هذا الموضوع دراسة مستفيضة نقتبس منها بعض فقرات بنصوصها:
ـ أميل إلى أن عيسى مات، وأنه كسائر ا لأنبياء مات ورفع بروحه فقط، وأن جسمه في مصيره كأجساد الأنبياء كلها: وتنطبق عليه الآية (إنك ميت وإنهم ميتون) الزمر/ 30، والآية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) آل عمران/ 144، وبهذا يتحقق أن عيسى مات.
ـ ومن رأيي أنه خير لنا نحن المسلمين وكتابنا (القرآن الكريم) لم يقل قولاً حاسماً أبداً أن عيسى حي بجسده، خير لنا منعاً للاشتباه من أنه ولد من غير أب، وأنه باق على الدوام مما يروج لفكرة شائبة الألوهية فيه، خير لنا أن نرى الرأي الذي يقول إن عيسى مات، وإنه انتهى، وإنه كغيره من الأنبياء لا يحيا إلا بروحه فقط، حياة كرامة وحياة رفعة الدرجة.
ـ وانتهى من هذا الكلام إلى أني أرى من الآيات التي أقرؤها في الكتاب أن عيسى مات، وأن موته حق، وأنه كموت سائر النبيين.
ويثير الأستاذ صلاح أبو إسماعيل نقاطاً دقيقة تتصل بالرفع فيقول: إن الله ليس له مكان حسي محدود حتى يكون الرفع حسياً، وعلى هذا ينبغي تفسير الرفع على أنه رفع القدر وإعلاء المكانة، ثم إن رفع الجسد قد يستلزم أن هذا الجسد يمكن أن يَرى الآن وأنه يحتاج إلى ما تحتاج إليه الأجسام من طعام وشراب ومن خواص الأجسام على العموم، وهو ما لا يتناسب في هذا المجال.
وأحب أن أجيب على مَن قال إن في مقدور الله أن يوقف خواص الجسم في عيسى، بأن إيقاف خواص الجسم بحيث لا يُرى ولا يأكل ولا يشرب ولا يهرم .. معناه العودة إلى الروحانية أو شيء قريب منها، وذلك قريب أو متفق مع الرأي الذي يعارض رفع عيسى بجسمه.
وبعض الناس يقولون إن عيسى رفع بجسمه وروحه، فإذا سئلوا: إلى أين؟ وما العمل في خواص الجسم؟ قالوا لا نتعرض لهذا. وهو رد ليس ـ فيما نرى ـ شافياً.
ونعود إلى الأستاذ صلاح أبو إسماعيل الذي يتساءل قائلاً: إذا كان رفع عيسى رفعاً حسياً معجزة، فما فائدة وقوعها غير واضحة أمام معاندي المسيح (ع) وجاحدي رسالته؟ وأنا أعتقد (الأستاذ صلاح أبو إسماعيل) أن كلمة (متوفيك) تعني وعداً من الله بنجاة عيسى من الصلب ومن القتل كما وعد محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يعصمه من الناس