ظلت مريم في الاعتكاف كعادتها، ولكنها فوجئت في يوم من الأيام برجل يقف أمامها، فارتاعت وتساءلت: مَن هذا الذي يُنغص عليها وحدتها؟ وماذا يريد نمها؟ ولكنه نقلها من عجب إلى عجب حين قال لها: (إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً) مريم/ 19، وصاحت مريم: (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بَغِياً) مريم/ 20، فأجاب: (كذلك، قال ربك هو عليّ هيّن، ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً) مريم/ 21، ورضيت مريم بمنحة الله، وبدأ الحمل، وتقول الآية الكريمة: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين) الأنبياء/ 91.
- ما الروح؟
وينبغي أن نقف هنا وقفة قصيرة لنقدّم دراسة عن الروح متصلة بقوله تعالى: (فنفخنا فيها من روحنا).
وقد وردت (الروح) في القرآن الكريم بمعان ثلاثة هي:
1 ـ بمعنى جبريل، قال تعالى:
ـ (وأيدناه بروح القدس) البقرة/ 87.
ـ (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) مريم/ 16.
ـ (نزل به الروح الأمين) الشعراء/ 193.
ـ (تعرج الملائمة والروح إليه) المعارج/ 4.
ـ (تنزل الملائكة والروح فيها) القدر/ 4.
2 ـ بمعنى الوحي بوجه عام أو القرآن بوجه خاص، قال تعالى:
ـ (ينزل الملائكة بالروح من أمره) النحل/ 3.
ـ (يلقي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده) المؤمنون/ 15.
ـ (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الشورى/ 52.
3 ـ بمعنى القوة التي تحدث الحياة في الكائنات، قال تعالى:
ـ (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الإسراء/ 85.
ـ (إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر/ 28-29.
ـ (إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ص/ 71-72.
ـ (والتي أحصنت فرجها فنفنخنا فيها من روحنا) الأنبياء/ 91.
ـ (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) التحريم/ 12.
والآية السابقة (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) واضحة الدلالة على أن هذه القوة التي تحدث الحياة في الكائن هي من علم الله، وأن الله سبحانه خص نفسه بمعرفة كنهها، وهو وحده الذي يمنحها فتدب الحياة أو يأخذها فتصبح الأجسام هامدة.
والآيات التالية تطبيق لذلك، فالله خلق بشراً من طين ثم أودعه الروح، وباللغة القرآنية (نفخ فيه من روحه) أي أودعه القوة التي لا يعرفها ولا يسيطر عليها سواه، فجاء آدم.
وأودع هذه القوة رحم مريم العذراء التي أحصنت فرجها والتزمت بالعفاف وعدم مخالطة الرجال، ونتيجة لنفخ روح الله في رحم مريم أي إيداع الله القوة التي تخلق الكائن الحي في رحم السيدة العذراء، جاء السيد المسيح.
ومن هنا تجيء الآية الكريمة: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم..) آل عمران/ 59.
ويلاحظ في الآيتين الكريمتين السابقتين المرتبطتين بالسيدة العذراء وحملها أن الآية الأولى تقول (فنفخنا فيها) والثانية تقول (أحصنت فرجها فنفخنا فيه) والمقصود في الآية الأولى منحنا مريم القوة التي جعلت طفلاً يدب في رحمها، فالضمير لمريم، أما الآية الثانية فاتجهت للوسيلة التي يجيء الأطفال عن طريقها وذلك للتقريب، وهناك إحدى القراءات في هذه الآية تقول (فيها) أيضاً، والنفخ هو تسلط الارادة كما سنرى بعد قليل وليس نفخاً بالمعنى المعروف.
ويتجه الإمام البيضاوي اتجاهاً ميسراً في شرح هذه الآيات فيرى أن (مِنْ) حرف زائد، وأن المقصود أودعنا في الطين أو في الرحم روحنا أي القوة التي لا يملكها سوانا والتي بمقتضاها يجيء كائن حي بدون الوسائل العادية. وكلماته هي (روح خلقناه بلا توسط أصل).
ويقول الباحثون المسلمون إن معنى النفخ هو تحصيل آثار الروح أي أن تدب الحياة، ويقولون إن منح الله القوة في كل الأرحام ضروري للحمل والحياة، وأن كثيراً من الأزواج يلتقون بزوجاتهم، ولا يحصل حمل مدة من الزمن لأن الله سبحانه لم يمنح هذه القوة التي يبدأ بها الحمل أو تبدأ بها الحياة، ثم يتفضل الله عندما يشاء فيمنح هذه القوة ويبدأ الحمل، ومعنى هذا أن نفخ الروح في الأرحام ضروري لكل البشر، وإنما ورد النص في حالتي آدم وعيسى لأن الخلق في آدم والحمل في عيسى جاء بغير الطريق الطبيعي، ولكن بالنسبة لله سبحانه وتعالى تستوي كل الطرق.
ولعله يرتبط بهذا ما يذكره ابن هشام حول تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) آل عمران/ 6، فإنه يذكر أن عيسى (ع) كان ممن صُوِّر في الأرحام كما صوّر غيره من بني آدم (آل عمران/ 49).
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لعيسى (ع) هذه القوة ليستعملها في هيئة الطير التي صنعها من الطين ثم نفخ فيها فأصبحت طيراً بإذن الله، قال تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله).
- النفخ:
وإيضاحاً لكلمة النفخ التي تكرر ورودها في القرآن الكريم متصلة بخلق آدم و بخلق عيسى (ع) أو بخلق طير من الطين أو متصلة بالنفخ في الصور، نذكر أن المفسرين يرون أن معنى النفخ هو تحصيل آثار الروح أي أن تدب الحياة، فهو تسلط الإرادة بالحياة في حالة آدم وعيسى وهيئة الطير التي أعدّها عيسى، وتسلط الارادة بالبحث يوم القيامة، وكلمات المفسرين التفصيلية هي: أصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق ولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض به القوة الحيوية فيسري حاملاً لها في تجويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعلقه بالبدن نفخاً، والمقصود تعلق الإرادة على كل حال.
وعلى هذا فخلق عيسى على هذا النمط هو على نمط خلق آدم وخلق الطائر من الطين الذي سيهيئه عيسى على هيئة الطير، وهو تصرف لا يحتاج لجهد، ولكن المسيحيين عندما اتخذوا ذلك وسيلة لتأليه عيسى عقدوا الأمور، وصوروا عيسى ابن الله .. والله سبحانه لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
- مشكلات السيدة العذراء بعد الحمل:
لقد تقبلت السيدة العذراء أمر ربها، وبدأ حملها بابنها، ولكن كيف سيكون موقفها من الناس الذين لا يعلمون ما تعلم؟
وبعد فترة بدأ الجنين يدب في رحم العذارء، وكثرت أوهامها وأفكارها عما سيقوله الناس عنها وخرجت من الهيكل إلى قريتها الناصرة، وأقامت في بيت صغير اعتزلت فيه الناس، ثم خرجت مع يوسف النجار إلى بيت لحم، فلما أوشكت على الوضع وأحست ألم المخاض خرجت من القرية، فأجاءها المخاض (دفعها) إلى جذع نخلة يابسة، وحيدةً فريدةً، حيث وضعت السيد المسيح، ونظرت لطفلها البريء الذي سيصبح في نظر القوم دليل جريمة، وقالت: (يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً) مريم/ 23، ثم فكرت في طعامها وشرابها ليكون ذلك وسيلة لدرِّ اللبن إلى ابنها، فسمعت صوت الملاك يناديها (ألاّ تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً –جدول ماء- وهزِّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً، فكلي واشربي، وقرِّي عيناً) مريم/ 24-26.
وإذا كانت مسألة الطعام والشراب قد انحلّت فكيف بمشكلة العار؟ وماذا عسى أن تقول للمتهمين والمتهكمين والذين سيصيحون فيها قائلين (يا مريم لقد جئت شيئاً فَرِيّاً، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا) مريم/ 27-28، ولكن الملاك علّمها الرد على هذا الاتهام، وهو أن تسكت وتدع الرد للطفل الصغير ففي كلامه الرائع معجزة وآية معجزة، (فإما ترينّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسياً) مريم/ 26.
فلما تجمع القوم وسألوها عن فعلتها أمسكت عن الكلام وأشارت إليهم ليكلموا الصبي (فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم مَن كان في المهد صبياً؟ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً. وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) مريم/ 29-33، وصدّق قليلون، ورآه الباقون سحراً، وظلت أغلبية بني إسرائيل الساحقة في طغيانهم يعمهون، فكانوا يسمونه (ابن البغية) وكانوا يقولون على مريم بهتاناً عظيماً.
- هل هناك حكمة في أن عيسى ولد من غير أب؟
يرى الأستاذ أبو زهرة أن ذلك كان لحكمة رائعة، فاليهود كانوا قوماً ماديين ربطوا الأسباب بمسبباتها، وسادت عندهم الفلسفة التي تقول إن خلق الكون كان من مصدره الأول كالعلة من معلولها، فأراد الله سبحانه أن يوضح لهم أن قدرته هي التي ربطت الأسباب بمسبباتها، وأنها تستطيع أن تتجاوز هذا القانون فيوجد المسبب دون أن يوجد السبب، فخلق الله عيسى من غير أب لهذا. ومن مادية اليهود أيضاً إنكارهم الروح واعتقادهم أن الانسان مادة خلقت من مادة فأراد الله أن يخلق إنساناً دون أنت كون المادة أساساً له.
- نشأة عيسى:
ليس عندنا كثير من المعلومات عن نشأة عيسى، ويقول القس بولس شباط إن الأناجيل قد أوجزت الكلام عن حياة عيسى من مولده إلى دعوته، فلم تذكر منها إلا نزراً يسيراً. ولا كَتَبَ الإنجيليون سوى أنه كان يزاول التجارة وقد نشأ ـ فيما يبدو ـ كما ينشأ الصبيان في عهده، وكان ينتقل مع أمه بين الناصرة وببيت المقدس، وامتاز بذكاء وعمق، فلم يكن يهتم بمظاهر الأشياء بل كان يغوص في أعماقها، وكان يسمع المدرسين والحكماء فلا يسلم بما يقولون به، بل يناقشهم كلما رأى في كلامهم غموضاً أو ألغازاً مما تعود سواه أن يقبلها دون تفسير أو نقاش، وقد ألَمَّ بالتوراة ونال من العلم قسطاً كبيراً، وساءه ما آلت غليه حالة قومه من بني إسرائيل من ضلال وعمى، وما خضعوا له من ترهات وأكاذيب سنلم ببعضها فيما يلي:
- بنو إسرائيل قبل نبوة عيسى:
حرَّف بنو إسرائيل شريعة موسى وجعلوا همهم جمع المال. وامتدّ هذا التفكير المادي إلى العلماء والرهبان، فأخذوا يحرضون العامة على تقديم القرابين والنذور للهيكل رجاء أن يحصلوا على الغفران، وربطوا الغفران برضا الرهبان ودعائهم.
وتعمقوا في المادية وبعدوا عن الروحية، فأنكر فريق منهم القيامة والحشر، ومن ثم أنكروا الحساب والعقاب، فانغمس الكثيرون منهم في متاع الحياة الدنيا غير خائفين من عاقبة، ولا متوقعين حساباً، وفي كلمة واحدة لقد فسدت العقيدة وفسدت الأخلاق، ولم يكن بد من منقذ يحاول أن يردهم عن طغيانهم الذين كانوا فيه يعمهون.
- نبوة عيسى ومعجزاته:
بُعث المسيح وهو في حوالي الثلاثين من عمره، وكان لب دعوته التبشير بالروح وهجر الملاذ الضالة، وأيده الله بمعجزات خارقة هامة ذكرها القرآن في الآيات الآتية: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران/ 49. فهذه معجزات أربعة:
1 ـ خلق طير من الطين.
2 ـ إبراء الأكمه والأبرص.
3 ـ إحياء الموتى.
4 ـ الإنباء بما هو مجهول من طعامهم ومدخراتهم.
وأما المعجزة الخامسة فهي إنزال المائدة التي طلبها الحواريون وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين، قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين، قال عيسى بن مريم: اللهم ربنا أنزل علنيا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين، قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين) المائدة/ 112-115.
ولست أدري كيف يتشكك الحواريون في رسالة عيسى مع براهينه الماضية، وهم الذين اتبعوه من دون بني إسرائيل؟ وإذا كان هذا شن الحواريين فكيف يكون شأن العامة، ثم لماذا كانت المائدة هي الوسيلة الوحيدة ليصدقوا، مع أنها ليست أقوى من إحياء الموتى ولا إبراء الأكمه والأبرص؟
وقبل أن نترك معجزات المسيح نقرر أن المسلمين مع إقرارهم بهذه المعجزات لا يؤيدون ما تذكره الأناجيل عن استعمال هذه المعجزات في الحياة العملية، فالذي يقرأ هذه الأناجيل يلاحظ ملاحظتين هامتين:
1 ـ تذكر هذه الأناجيل عدداً ضخماً أحياهم المسيح بعد الموت، أو شفاهم من البرص، أو جعلهم يبصرون بعد العمى، وطبيعة المعجزة غير ذلك، إنها دليل لإثبات النبوة، ومعنى ذلك أنها تستعمل بضع مرات لتحدي البشر حتى يصدقوا، ولكن الذي تذكره هذه الأناجيل غير هذا، إنه أشبه بالتمثيل، أي يُميت الله فيحيى عيسى مَن أماته الله دائماً، ويقضي الله بالعمى فَيَهبُ عيسى الأبصار لكل العميان.
وتحفل الأناجيل بالحديث عن العشرات والمئات من المجانين والمصروعين والعميان والموتى والمشلولين الذين شفاهم السيد المسيح، وأحياناً يذكر إنجيل متى أن (جموعاً كثيرة جاءت ليسوع فيهم العرج والعمى والخرس والشل وآخرون كثيرون وطرحوا عند قَدَمَي يسوع فشفاهم).
2 ـ من أين هذا العدد الكبير من المرضى والموتى والعميان.. الذين ذكرت الأناجيل أن معجزات المسيح مستهم؟ حتى ليوشك أن يفوق هذا العدد سكان فلسطين جميعاً في ذلك الوقت، وكأن كل السكان مسهم البرص أو العمى فشفاهم عيسى، أو ماتوا فأحياهم.
- اتجاه معجزات عيسى:
لماذا اتجهت معجزات المسيح اتجاهاً طبياً في الغالب؟
المشهور أن أكثر معجزات الرسل تأتي من نوع ما اشتهر من الفكر في عهد كل منهم، وتكون في مستوى أعلى مما يستطيعه الناس، فالسحر كان معجزة موسى، والبلاغة كانت من معجزات محمد، لانتشار السحر في عهد موسى، وانتشار البلاغة في عهد محمد، ولكن، ليس معنى هذا انتشار الطب بين بني إسرائيل في عهد عيسى، لا، فإن الثابت أن معرفة بني إسرائيل بالطب كانت قليلة حينذاك وقبل ذاك، حتى لقد كان انتشار الوباء بينهم من أسباب إخراجهم من مصر، والذي نراه أن معجزات عيسى في صميمها تتفق مع طبيعة مولده، فمعجزاته من نوع مولده ترمي إلى إحياء الناحية الروحية وإقامة الدليل على وجود الروح، تلك التي أنكرها أكثر بني إسرائيل فخلق شكل طير من الطين لا حراك فيه، ثم النفخ فيه فيتحرك ويطير مع أن مادته لم يزد عليها شيء، معناه أن زيادة جديدة طرأت، وهذه الزيادة ليست مادية قط، فلابد أن تكون روحية، وجسم الميت الذي لا يتحرك ولا يعي، يصبح بعد دعوة عيسى حياً واعياً دون زيادة مادية عليه، فمعنى ذلك وجود الروح.
وتتصل بمعجزات عيسى (ع) خرافة كان جديراً بنا أن نغض عنها الطرف، ولكن لا بأس من إيرادها للترويح، فقد ذكر الأب بولس إلياس في مجال الفخر بعيسى ومعجزاته ما يلي: (ومن مزيته التي لا يفاضله فيها نبي ولا رسول أنه أفضى بالقدرة على إتيان المعجزات إلى تلاميذه، ثم جدد منحها لهم بعد قيامه من الموت وصعوده إلى السماء، وأورث كنيسته تلك القدرة أيضاً).
ولو استطاع البابا الآن أن يحيي الموتى أو يبرئ الأكمه والأبرص كما كان عيسى يفعل، لو استطاع ذلك لتوقف الخلاف بين الأديان ولاتبعه كافة البشر، ولكن هيهات أن يكون ذلك، فليس البابا إلا إنساناً يمرض ولا يعرف الطريق إلى علاج نفسه، فما بالك بعلاج سواه، وقد رأينا حديثاً أحد البابوات يمرض ويطول عليه المرض، وتقوم الصلوات في الكنائس للتخفيف عنه وشفائه دون جدوى، فمن أين جاء بولس إلياس وأمثاله بهذه الخرافة؟
- اليهود ودعوة المسيح:
كانت دعوة المسيح تحارب اتجاهين تأصّلا عند اليهود، هما:
1 ـ شغفهم بالمادة وإهمالهم الناحية الروحية فيهم.
2 ـ ادعاؤهم أنهم شعب مختار، وادعاء أحبارهم أنهم الصلة بين الله والناس، وبدونهم لا تتم الصلة بين الخالق والمخلوق.
ولشد ما كان ارتياع اليهود وغضبهم عندما شهدوا يسوع يكستح أمامه كل ما يعتزون به من ضمانات، إذ يعلم الناس أن الله ليس من المساومين، وأن ليس هناك شعب مختار، وأن لا أحظياء في مملكة السماء، وأن الله هو الأب المحب لكل الأحياء، وأنه لا يستطيع اختصاص البعض بالرعايات عدم استطاعة الشمس ذلك مع الناس سواء بسواء.
وبسبب هذا الموقف تعرض عيسى إلى عداء بني إسرائيل وسخطهم، ولم يؤمن به إلا قليلون منهم، فقد انتظروه مسيحاً يبسط سلطان بني إسرائيل على العالم أجمع، ولكن خابت آمالهم فيه، ثم عندما رأوا أن بعض الضعفاء اتبعوه، خافوا أن تنتشر مبادئه، فأغروا به الحاكم الروماني، ولكن الرومانيين كانوا وثنيين ولم يكونوا على استعداد للدخول في الخلافات الدينية بين اليهود، ولم تكن دعوة المسيح التي أعلنها إلا إصلاحاً خلقياً ودينياً فلم تتصل دعوته بالسياسة، ولم تمس الحكومة من قريب أو من بعيد، ولذلك لم يستحق غضب الرومان، ولكن اليهود تتبعوا عيسى لعلهم يجدون منه سقطة تثير عليه غضب الرومان، فلما لم يجدوا تقوّلوا عليه وكذبوا، فأغضبوا الحاكم الروماني على عيسى، فأصدر أمره بالقبض عليه، وحكم عليه بالإعدام صلباً.
وكان الكهنة وغوغاء أورشليم المتمسكون بعقيدتهم السلفية أكبر المتهمين ليسوع.