- نهاية المسيح على الأرض:
أخذ جند الرومان يبحثون عن عيسى لتنفيذ الحكم عليه كما أوردنا من قبل، وكان عيسى قد لجأ إلى ضيعة جثسيماني ليحتمي بها، ولكن الخائن يهوذا الاسخريوطي أحد الحواريين، كان قد اتفق مع زعماء اليهود على أن يدلهم على مكمنه نظير ثلاثين قطعة من الفضة، وتسلم هذا الخائن هذا المبلغ، وقاد جند الرومان إلى حيث وجد السيد المسيح، ولما كان جند الرومان لا يعرفون شخصية المسيح، فقد ذكر الخائن لهم علامة هي قوله: الذي سأقبِّله هو هو أمسكوه.
وتمّ كل شيء على هذا النمط، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فإنه عند تقبيل الخائن للمسيح ألقى الله على الخائن شبه عيسى وملامحه تماماً، فأصبح الدليل هو المدلول عليه، وأصبح الذي قبَّل يحمل جميع ملامح الذي قُبِّل، وتقدم جند الرومان فقبضوا على الخائن وأرتج عليه، أو أسكته الله فلم يتكلم حتى نفذ فيه حكم الصلب.
أما السيد المسيح فقد كتب الله له النجاة من هذه المؤامرة، وانسلَّ من بين المجتمعين فلم يحس به أحد، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم).
بقيت بعض نقاط جديرة بالإيضاح هي:
أولاً ـ مَن هو الخائن؟
ما ذكرناه آنفاً من أن الخائن هو يهوذا الاسخريوطي أحد الحواريين الاثني عشر هو رواية مسيحية، أما المراجع الاسلامية فلم تحدد شخصية الواشي، وتتجه المراجع المسيحية إلى نجاح المؤامرة وصلب السيد المسيد، وأن يهوذا كان حياً بعد صلب عيسى، وأنه ندم وردّ إلى كهنة اليهود ما كان قد أخذه منهم، ومضى فخنق نفسه.
ولا يوافق المسلمون على هذا الزعم لأن هذه المراجع اتجهت هذا الاتجاه لاقتناعها بأن الذي صُلب هو السيد المسيح نفسه، ونقول إنه إذا ثبت أن يهوذا كان حياً بعد هذه الحادثة فن الخائن يكون شخصاً آخر، لأن المسلمين لم يحددوا شخصية الخائن.
وأغلب الظن أن الدفاع عن يهوذا دفاع مصطنع قام به بعض الذين شملهم الخجل من هذه الخيانة التي قام بها أحد الحواريين.
وإذا جاز لنا أن نجري بعض المقارنة فإننا نذكر القارئ أن زعماء المسلمين كانوا في حالات متعددة يضعون أنفسهم لمواجهة المخاطر حتى ينجو الرسول، وقد حدث ذلك في غزوة أحد وغزوة حنين، كما حدث قبل ذلك عندما بات الإمام علي في سرير الرسول ليلة الهجرة، وهو يعرف أن مَن يبيت في هذا السرير يواجه الموت من الأعداء المتربصين بصاحب البيت.
ثانياً ـ إلى أين ذهب عيسى بعد النجاة من المؤامرة؟
لم تتحدث المراجع التاريخية عن المكان الذي ذهب إليه عيسى (ع) عقب نجاته من المؤامرة، والذي يرشد له العقل أن عيسى (ع) بعد ذلك ترك فلسطين لأن بقاءه فيها كان معناه أن يعثر عليه اليهود والسلطة الحاكمة في يوم من الأيام، وأن ينفذوا فيه الحكم الذي صدر عليه.
وعلى كل حال فقد اختفى السيد المسيح عقب نجاته، واختفت معه أخباره، على أن هناك قولاً يرى أن المسيح هاجر إلى بلاد الهند ومات هناك في لاهور، وهو قول ينقصه التأكيد والوثائق.
ثالثاً ـ ماذا كانت نهاية عيسى بعد النجاة؟
هل رفع إلى السماء حياً بجسمه وروحه؟
هل استوفى أجله على الأرض وهو مختف ثم مات ودفن جسمه ورفعت روحه إلى بارئها؟
كان هناك اتجاه شاع بين الناس بأن عيسى (ع) عندما نجا من المؤامرة رفع بجسمه وروحه إلى السماء، وكان هذا الرأي يصور اختفاءه الذي تحدثنا عنه، ولكن هذا الاتجاه واجه دراسة واسعة قام بها المفكرون في العصر الحديث، واعتمدوا في كلامهم على نصوص قديمة ودراسات موثقة، وأوشك هذا الاتجاه الجديد أن يقضي على المزاعم القديمة التي كانت تقول برفع السيد المسيح بجسمه وروحه.
وعلى كل حال فينبغي أن نورد دعائم الرأي القديم، وأن نناقش هذه الدعائم لنسهم في تأصيل الرأي الجديد الذي نرتضيه.
بُنِيَ الرأي القديم على فهم غير دقيق للآيات والأحاديث التالية:
ـ قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه) النساء/ 157-158.
ـ وقوله: (إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا).
ـ ما ورد في البخاري ومسلم من أن رسول الله (ص) قال: والذي نفسي بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حاكماً عادلاً مقسطاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير..
ـ ما ورد في مسلم من أن عيسى سينزل في آخر الزمان فيقتل المسيح الدجال.
- مناقشة هذه الأدلة وردّها:
ويناقش جمهور المفكرين المسلمين هذه الأدلة فيقولون إن عيسى بعد أن نجا من اليهود عاش زمناً حتى استوفى أجله، ثم مات ميتة عادية ورفعت روحه إلى السماء مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء، وقد ورد النص برفع عيسى ـ مع أن روحه سترفع بطبيعة الحال لأنه نبي ـ تكريماً لمكانته بعد التحدي الذي واجهه من اليهود، فذكر الله نجاته، ثم مكانته التي استلزمت رفع روحه.
ويقولون عن الآية الأولى (بل رفعه إليه) إنها تحقيق الوعد الذي تضمنته الآية الثانية (إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا) فإذا كان قوله تعالى (بل رفعه الله إليه) خلا من ذكر الوفاة والتطهير واقتصر على ذكر الرفع فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في قوله (إني متوفيك..) جمعاً بين الآيتين.
ويرى هؤلاء العلماء أن الرفع معناه رفع المكانة وقد جاء الرفع في القرآن بهذا المعنى كثيراً، قال تعالى:
ـ (في بيروت أذن الله أن ترفع) النور/ 36.
ـ (نرفع درجات مَن نشاء) الأنعام/ 83.
ـ (ورفعنا لك ذكرك) الانشراح/ 4.
ـ (ورفعناه مكاناً علياً) مريم/ 57.
ـ (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة/ 11.
وإذن فالتعبير بقوله (ورافعك إلي) وقوله (بل رفعه الله إليه) كالتعبير في قولهم: لحق فلان بالرفيق الأعلى، وفي (إن الله معنا9 التوبة/ 55. وفي (عند مليك مقتدر) القمر/ 55، وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس.
وهناك آية كريمة أقوى دلالة من آيات الرفع، ولكنها مع هذا لا تعني سوى خلود الروح لا الجسم، وهي قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) آل عمران/ 169.
فمع أن الآية قررت أنهم أحياء فليس معنى هذا حياة الجسم، فجسم الشهيد قد وُوري التراب، ومع أنها قررت أنهم عند ربهم. وأنهم (يرزقون) .. فليس المقصود هو العندية المكانية. ولا الرزق المادي، وإنما المقصود تكريم الروح بقرباه من الله قرب مكانة والاستمتاع باللذائذ استمتاعاً روحياً لا جسمانياً.
وعن الحديثين يجيب الباحثون بإجابتين:
أولاً ـ هما من أحاديث الآحاد وهي لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية كما سبق.
ثانياً ـ الحديثان ليس فيهما كلمة واحدة عن رفع عيسى بجسمه، وقد فُهِم الرفع من نزول عيسى، فاعتقد بعض الناس أن نزول عيسى معناه أنه رفع وسينزل، وهكذا قرر هؤلاء أن عيسى رفع لمجرد أن في الحديثين كلمة ينزل، مع أن اللغة العربية لا تجعل الرفع ضرورة للنزول، فإذا قلت نزلت ضيفاً على فلان، فليس معنى هذا أنك كنت مرتفعاً ونزلت، وإذا رجعنا إلى مدلول هذه الكلمة (نزل-وأنزل) في القرآن الكريم، وجدنا أنه لا يتحتم أن يكون معناها النزول مع ارتفاع، بل قد يكون معناها: جعل، أو قدَّر، أو وقع، أو منح، قال تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) الحديد/ 25، أي جعلنا في الحديد قوة وبأساً.
وقال: (وقل ربي أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين) المؤمنون/ 29، أي قَدِّر لي مكاناً طيباً.
وقال: (فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين) الصافات/ 172، أي وقع.
وقال: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) الزمر/ 6، أي منحكم وأعطاكم.
وهكذا يتبين لنا أن كلمة ينزل في الحديثين ـ لو صح هذان الحديثان ـ ليست إلا بمعنى يجيء، ومن الممكن أن يحيى الله عيسى ويرسله على شريعة محمد قبل قيام القيامة، وليس ذلك بمستبعد قط على الله، والاستنتاج الذي قاله به هؤلاء خروج بالكلمات عن مدلولها، فالرفع ليس من كلمات الحديث الشريف بل من تفكير بعض قارئ الحديث وليس من حقهم أن يضيفوا إلى الحديث ما ليس منه وما لا تستدعيه ألفاظه.
وهناك آيتان اختلف المفسرون في تفسيرهما، وجاء في بعض ما قيل عنهما أنهما تدلان على نزول عيسى في آخر الزمان، وهاتان الآيتان هما.
ـ (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) النساء/ 159.
ـ (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها) الزخرف/ 61.
فعن الآية الأولى يرى بعض المفسرين أن الضمير في (به) وفي (موته) عائد على عيسى ويكون المعنى على ذلك عندهم أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى أن سيؤمنون به عند عودته آخر الزمان، ولكن هذا مردود بما ذكره مفسرون آخرون من أن الضمير في (به) لعيسى وفي (موته) لأهل الكتاب، والمعنى أنه ما من أحد من أهل الكتاب يدركه الموت حتى تنكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح فيرى أن عيسى رسول ورسالته حق، فيؤمن بذلك، ولكن حيث لا ينفعه إيمان.
وأما عن الآية الثانية (وإنه لعلم للساعة..) فيرى بعض المفسرين أن الضمير في (إنه)، راجع إلى محمد (ص) أو إلى القرآن على أنه من الممكن أن يكون راجعاً ـ كما يقول مفسرون آخرون ـ إلى عيسى لأن الحديث في الآيات السابقة كان عنه. فالمعنى وإن عيسى لعلم للساعة، ولكن ليس معنى هذا أن عيسى سيعود للنزول بل المعنى أن وجود عيسى في آخر الزمان (نسبياً) دليل على قرب الساعة وشرط من أشراطها، أو أنه بخلقه بدون أب، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث.
وعلى كل حال فنزول عيسى في آخر الزمان على فرض حدوثه ليس معناه رفعه حياً بجسمه كما سبق القول، ثم إن الدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال كما يقول علماء الأصول، وفي هذه الأدلة أكثر من الاحتمال، بل فيها اليقين عند الأكثرين.