كانت حرب الاستنزاف تدفع اليهود في المنظمة الصهيونية العالمية، وعلى رأسهم ناحوم جولدمان، الى ضرورة تحقيق سلام بين مصر واسرائيل، من شأنه ان يعيد لاسرائيل توازن وجودها في المنطقة، بعيدا عن اوهام التوسع والسيطرة.
وباءت محاولات جولدمان للقاء بالرئيس عبد الناصر من خلال الرئيس اليوغسلافي تيتو بالفشل، بسبب معرفة الرئيس عبد الناصر بضعف الدور الذي تلعبه المنظمة الصهيونية العالمية في التأثير على قادة الكيان الصهيوني المحتل للاراضي العربية.
وكما ضاعت محاولات جولدمان، فقد تبعتها محاولات ايطالية ورومانية. ولكن المحاولة الاكثر جدية جاءت مع تولي ويليام روجرز مهمة وزير الخارجية للولايات المتحدة وتكليفه من خلال الرئيس نيكسون بحل مشكلة الشرق الاوسط، في الوقت الذي تولى فيه غريمه وخصمه اللدود هنري كيسنجر بحل ازمة فيتنام.
كان الرئيس عبد الناصر لا يزال ينظر الى حرب الاستنزاف بأنها التأكيد والاصرار على عدم التسليم بالهزيمة. وكانت تأثيرات هذه الحرب على القادة الاسرائيليين ترشح معبرة عن خوفهم من المستقبل. فقد نقل على لسان وزير الدولة الاسرائيلي "جاليلي" قوله في اجتماع مجلس الوزراء: اسائل نفسي الى متى نستطيع تحمل الخسائر العالية التي نتكبدها في حرب الاستنزاف.
وحين عرض مشروع روجرز على الرئيس عبد الناصر كان يدرك ما فيه من مثالب وما فيه من ايجابيات، ولكنه اثر عدم الرد تاركالردود الفعل الاسرائيلية على المشروع ان تأخذ مداها. وقد شجع عدم الرد المباشر من قبل مصر الولايات المتحدة من المتابعة، وخاصة ان زيارة عبد الناصر الى روسيا قد فتحت الباب لوصول قوات سوفيتية الى مصر. ووصل جوزيف سيسكو في شهر نيسان 1970 وقد صارحه الرئيس عبد الناصر بموقف مصر من المشروع وتحفظها على قبوله لاسباب عدة اهمها انه مشروع امريكي محض دون اي دور للاتحاد السوفيتي الذي يشكل طرفا في معادلة القوة في الشرق الاوسط. اضافة الى ان الحل الذي يركز على قرارات الامم المتحدة لابد من ان يحظى بمشاركتها الفعالة. اضافة الى ان العالم العربي يرى في امريكا حليفا مساندا لاسرائيل في عدوانها. ولهذا فهو يرفض قبول اي مشروع لا تمارس فيه الولايات المتحدة ضغطا مباشرا وملموسا، حيث هي القوة الوحيدة القادرة على التأثير في القرار الاسرائيلي.
وقد قام الرئيس عبد الناصر في الاول من مايو/ ايار بمناسبة عيد العمال بتوجيه نداء مفتوح الى الرئيس نكسون يؤكد فيه ما قاله لسيسكو وهو مطالبة امريكا (بالضغط على اسرائيل كي تنسحب من الاراضي العربية التي احتلتها عام 1967 فاذا لم يكن مثل هذا الضغط ممكنا فالممكن بعده ان تتوقف الولايات المتحدة عن استمرار تزويد اسرائيل بالسلاح وإلا فهي شريك في استمرار احتلال الاراضي العربية بقوة هذا السلاح)(1)
وادراكاً من الادارة الامريكية لاهمية ملاحظات الرئيس عبد الناصر، فقد تم طي مشروع روجرز الامريكي الصيغة واستبداله بما اطلق عليه مبادرة روجرز، التي تعطي للامم المتحدة الدور المباشر في عملية التسوية وتطبيق قرار مجلس الامن 242. وكانت مبادرة روجرز تتلخص بما يلي:
(تعلن اطراف النزاع في الشرق الاوسط وتنفذ وقفا محدودا لاطلاق النار مدته تسعون يوما. وفي هذه الفترة ينشط السفير جونار يارنغ لينفذ قرار مجلس الامن 242 وبالتحديد فيما يتعلق بالتوصل الى اتفاق على سلام عادل ودائم يقوم على الاعتراف المتبادل والسيادة ووحدة الاراضي والاستقلال السياسي. وتقوم اسرائيل بسحب قواتها من اراض احتلتها في معركة 1967).(2)
وقام الوزير روجرز بتوجيه رسالة تتضمن مشروعه الى كل من حكومة الجمهورية المتحدة وحكومة الاردن وحكومة اسرائيل، وجاء النص الموجه الى الاردن على الشكل التالي" ان التطورات الاخيرة في الشرق الاوسط بما في ذلك الاحداث الاخيرة في الاردن قد اقنعتني بانه يجب ان نتحرك بسرعة للتغلب على المأزق الحالي الذي يعترض التسوية السلمية، انني اعتقد بأن الوضع حرج وخطير. وان الاردن والولايات المتحدة الامريكية تربط بينهما صلات ودية ووثيقة، وان علينا ان نتعاون في سبيل مصلحتنا المشتركة، اننا نتطلع الى الجهات المعنية والى حكومتكم بشكل خاص، التي يمكن ان تقوم بدور هام كي تتحرك معنا لاستغلال هذه الفرصة. واذا ضاعت هذه الفرصة فاننا سنتألم للعواقب وسنأسف لحدوث نتيجة مثل هذه.
وبهذه الروح فانني احث حكومتكم ان تعطي كل اهتمام الى الافكار التي سأطرحها فيما يلي:
اننا معنيون ومهتمون بالتوصل الى سلام دائم وعادل. ونحب ان نساعد الفرقاء المعنيين على بلوغ هذا الهدف. وقد وضعنا مقترحات جديدة وعملية لهذه الغاية. واستشرنا جميع الفرقاء حول الحاجة الى حلول وسطية وايجاد حل يمكن ان يسود معه السلام.
وفي رأينا ان اكثر وسيلة فعالة من اجل الوصول الى تسوية هي تمكين الفرقاء ان يبدأوا العمل تحت اشراف الدكتور يارنج بهدف ايجاد الخطوات التفصيلية اللازمة لتنفيذ قرار مجلس الامن رقم "242" وعلى اساس هذه الافكار فان الحكومة الامريكية تضع امامكم الاقتراح التالي وتأخذ بعين الاعتبار:-
أ- ان توافق كل من الاردن والجمهورية العربية المتحدة واسرائيل على اعادة وقف اطلاق النار لمدة محدودة على الاقل.
ب- ان توافق كل من الاردن واسرائيل وكذلك الجمهورية العربية المتحدة واسرائيل على البيان الذي سيصدر بشكل تقرير يقدمه السفير يارنغ الى السكرتير العام يوثانت ينص على ما يلي:-
"ان الاردن واسرائيل وكذلك الجمهورية العربية المتحدة واسرائيل قد افادتا بانهما توافقان:-
أ- بانهما وقد قبلتا قرار مجلس الامن رقم 242 واشارتا لاستعدادهما تنفيذ ذلك القرار بكل اجزائه، توافقان على تعيين ممثلين الى مباحثات تعقد تحت اشرافي حسب الاصول وفي المكان والزمان الذي احدد، آخذا بعين الاعتبار الطريقة والشكل اللذين يفضلهما كل من الفرقاء على اساس خبرتهما السابقة.
ب- ان غاية هذه المباحثات المشار اليها هي التوصل الى اتفاق على اقامة سلام عادل ودائم بين الفرقاء قائما على اساس:-
1- اعتراف متبادل بين الاردن واسرائيل "وبين الجمهورية العربية المتحدة واسرائيل" وبسيادة كل منهما وسلامة كيانها الاقليمي واستقلالها السياسي.
2- انسحاب اسرائيل من اراضي محتلة في عام 1967 عملا بما جاء في قرار مجلس الامن رقم 242.
جـ- في سبيل تسهيل مهمتي في التوصل إلى اتفاق حسبما جاء في القرار رقم 242 فان الفرقاء يراعون بدقة قرار وقف اطلاق النار الصادر من مجلس الامن، وذلك ابتداء من اول تموز حتى اول اكتوبر على الاقل.
واخيرا فاننا نأمل ان تجد الاردن هذا الاقتراح مقبولا.
وسنسعى للحصول على موافقة اسرائيل. وفي نفس الوقت تشاركونني بانه يجب ان نفعل كل شيء ليبقى هذا الاقتراح مكتوماً حتى تتضرر احتمالات قبوله. (3)
كانت حركة فتح تدرك طبيعة الظروف التي كانت تعيشها مصر، وما تحاول به تعزيز قوتها على واجهة حرب الاستنزاف. وكانت العلاقات الحميمة بين الرئيس عبد الناصر وقيادة حركة فتح تسمح بالتمايز في الموقف من مشروع روجرز، وكل مشاريع التسوية التي تتعارض مع فكر مرحلة التحرر الوطني، فشعار ازالة آثار العدوان كان مقبولا على مستوى الانظمة وليس على مستوى الثورة، ومن هنا كان موقف حركتنا ينطلق من عدم التهجم على السياسة التي تتبعها مصر تجاه مهمة يارنج. في الوقت الذي تعبر فيه الحركة عن موقفها من عملية التسوية برمتها. وقد جاء موقف الحركة على لسان الناطق الرسمي، الاخ ابو عمار في حديثه مع مندوب اذاعة صوت
انتظروا الجزأ الثاني
***فهد***