بقوة إعلامه وثقافته التي يُجدَّد تأسيسها حالياً، يقدم لبنان صورةً مؤسطرةً لرجالاته السياسيين الموصوفين أحياناً بالعمالقة والجبابرة والكبار الكبار، وحتى بأعمدة السماء المقصود هنا "سماء الطوائف" التي لو انزاح ركنٌ منها لكان لانزياحه أو سقوطه وقع مماثل على أرض لبنان. وانطلاقاً من هذه الأسطرة السياسية المضادة لكل شَبَهٍ ديمقراطي، تتناوب على هذا البلد الصغير الحجم (والكبير الرؤوس الحامية) اضطرابات نفسية سياسية لا مثيل لها في المجتمعات العربية، الجوارية والبعيدة جداً. ومع ذلك يُقال منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1920 إنه "بلد فريد من نوعه" وإن كان "ذا وجه عربي"، ثم صار عربياً بعد اتفاق الطائف (1989) "وطناً نهائياً لجميع أبنائه". ونعتقد أن الأوان قد آن لكي نتساءَل علمياً، عن أسباب فرادة هذا البلد المزدوج: العربي / الغربي، الديمقراطي / الطائفي، الحضاري / التجاري، السياسي / اللاسياسي، السياحي / الايديولوجي، المنفتح المنغلق، إلخ.
البلد الصغير بحجمه الكبير بطموحاته وادعاءاته، الذي ينفخ إمكاناته بمنفاخ غرور نرجسي جماعي، فيمدّ نفسه بلا حدود إلى خارج حدوده. أخيراً ظهر شعار لبناني: "اخترعنا الحروف ولم نخترع الحروب". لكن هل يوجد بلد عربي معاصر عاش في القرنين التاسع عشر والعشرين، وحتى مطلع الألفية الثالثة، ما عاشه لبنان من حروب على مقاس أرضه وسكانه؟ وهل هناك بلد عربي ينسب إلى نفسه اختراع حروف لا يستعملها حالياً، ويتناسى الحروف العربية وأرقامها التي جاءته من قلب الجزيرة العربية، فعرَّبته وأدمجته في سلطة اسلامية/عربية منذ الفتوحات الثقافية الحضارية في القرن الميلادي السابع؟
ما أغرب حكاية لبنان الذي لم يرسم ساستُه حدوداً لتعملقهم السياسي في نطاقٍ للمكان المحدود ولذاكرته التاريخية.
من هنا تبدأ بنظرنا، مأساة شعب لبنان الذي لم تُتَحْ له فرصة تاريخية كافية من الاستقرار السياسي، لكي يحقق ذاته الوطنية. فلبنان بلد فاتِن بذاته، لكنه فِتَنيّ، انقسامي أو انشقاقي بتركيبه. فهو نتاج جماعات متنافية، لنقل متنافسة لكن بغير قواعد صارمة للتنافس الطبيعي، أي التسالم في نطاق التغالب، حسب الفارابي. كل جماعة أو طائفة فيه تدَّعي أنها أمة وذات رسالة للعالم قاطبة، وأنها أمة ثقافية، حضارية، متحضِّرة، وأكثر من ذلك محضِّرة لغيرها. فهل هي كذلك؟ ما يصحُّ على عبقرية الأفراد لا يصحُّ في الوقت ذاته على أداء الجماعات السياسية في لبنان، وما يُقال عن استحالة تعايش المتنافيات وتدامجها لتشكيل أمة موَّحدة، كما في فلسفة جورج نقاش، مثلاً وفي عقلانية ميشال شيحا السياسية القائمة على المجلسية، بمعنى أن مجلس النواب وسواه من المجالس التمثيلية كفيلة بالحفاظ على الوحدة الوطنية؛ هذا القول قد يصح في الرياضيات حيث يتحول اجتماع المتنافيات أو السالبات إلى ايجابيات أو موجبات؛ ولكنه لتاريخه لم يصحّ طويلاً على الاجتماع السياسي اللبناني، في بلد غنيّ بالاختلافات والمفارقات والطموحات. ويصحّ على اللبنانيين المشغولين سياسياً وثقافياً بهموم غيرهم، التساؤل: لمن تركتم همومكم منذ 1830 تاريخ تأسيس الطائفية السياسية- وحتى الآن؟ هذا يفسِّر من وجه ما، استقواء الذات بالآخر، بالغير أجنبياً كان أو عربياً؛ كما يفسّر غياب الفكر السياسي، أو الرياضيات السياسية إذا جاز القول، عن الثقافة اللبنانية الغنية جداً بمواردها السياسية.
إذ من المرحلة الايديولوجية ما بين 1926 و،1949 إلى المرحلة البراغماتية، منذ 1950 وحتى ،2007 شهد لبنان موجات من عمالقة السياسة، لم يعرفوا التواضع على حدود لتعملقهم النفسي السياسي لسببين متلازمين:
- تغليب المخزون الاسطوري اللبناني على الواقع الاجتماعي الحالي لمكوّنات لبنان الجيو بوليتيكية.
- تغليب قوة الانتشار اللبناني في العالم (على ما يُقال هناك 60 مليوناً في العالم من أصل لبناني؛ وهناك 15 مليوناً ما زالوا مرتبطين بلبنان) على واقع المُقيمين فيه.
هذان السببان أسهما، تعاقبياً، في تكوين ذهنية سياسية لبنانية، كوسموبوليتية ثقافياً، كومبرادورية تجارياً؛ ذهنية جعلت معظم السياسيين يتناسون "جبرية المنزلة" التي يختصرها المثل الشعبي اللبناني "على قدّ بساطك مدّ رجليك"، أو بالعكس، والتي تعني أن الدور السياسي للشخص مرتبط بموقعه الجماعي، الطائفي عموماً، الوطني الجامع نادراً. في السياق التاريخي للتعملق السياسي اللبناني، نذكر مدى طغيان الاوهام أو الاحلام على مخيّلة الرجال: من رجال الاستقلال الذين أسسوا فرادتهم على ثنائية المسلم المسيحي (أي السني الماروني) وكأن الآخرين غير موجودين، وسموا إحدى حكوماتهم عام 1946 "حكومة الجبابرة" لانطوائها على زعماء التعملق اللبناني، أي على المتناقضات المتنافيات؛ إلى رجال سياسة تسمى بعضهم باسم "جبَّار البقاع"، مقابل "ابن عمود السّما" في الجبل، أو الزعيم الأوحد في الجنوب، و"النّمر" وسوى ذلك.
إلى ذلك تعملق فؤاد شهاب، وكأنه أمير الشهابيين في عصر سابق، فلم تدم ولايته سوى ست سنوات، تلاها انحطاط سياسي، ثم كان تعملق كمال جنبلاط في سياق الحركة الوطنية اللبنانية وانكساره في أقل من ست سنوات؛ إلى تعملق موسى الصَّدْر وخروجه عن حدود لبنان، مما جعله يُغيَّب سنة ،1978 في أقل من ست سنوات تعملق. وبعدئذٍ، جاء ورثة المتعملقين، من سلالة الايديولوجيين الكبار، ومن جبابرة العمل السياسي اللاحق، وظنوا أن ديكورات العالم العربي، والعالم ذاته لم تتغير بوهم أن كل شيء هنا يتوقف على ادعاءاتهم وأحلامهم الأكبر من ذاتهم ومن واقعهم السياسي. وها هم الآن يكرّرون لعبة التعملق الخادع، فيما هم كما قال شاعر عربي قبل الإسلام: "مخاريق بأيدي لاعبينا". لا أحد في ساسة لبنان عرف حدَّه فوقف عنده. وها هي نتيجة لعبتهم: تحوّلهم إلى ملعوبين