اذا كان الفرق واضحا بين نهر جار , ومستنقع آسن , فسيكون الفرق واضحا جدا بين مجتمع حيوي , متجدد , فاعل , وبين آخر متهالك جامد , كلّ , حيث ان الثاني سيكون مركزا للامراض والاوبئة الاجتماعية وعرضة للتوقف عن الحركة والموت والخروج من دائرة الحياة الحقيقية التي تختزن النشاط والابداع في حقول الحياة المختلفة وان كان ظاهره الحياة والحركة , الا ان حركته سطحية غير عميقة , ولهوية غير هادفة .. ان مجتمعا ثقيل الخطى , كمريض سلبه المرض القدرة على الحركة الحقيقية والمرنة , وسلبت معه حيويته فأصبح مقيدا مشلول الحركة والنشاط.
ان مجتمعا تتشكل مواصفاته بهذه الكيفية سينتهي الى بؤس وشقاء .. انه مجتمع , يختزن الكارثة في نهاية المطاف .. كارثة ضياع القيم , وفقدان الهوية , والتمزق الاجتماعي .. انها نتائج التوقف والجمود , والاحجام عن اقتحام المستقبل بأدوات تجذر قيمنا وتجدد روحنا الاجتماعية , انها الدورة الدموية المتجددة عندما تتوقف , فيتوقف معها القلب , وتحدث الكارثة ..
بيد ان الصورة تختلف تماما بالنسبة للمجتمع الاول .. المتجدد , انه مجتمع يكيف الاشياء , ويخضعها لقيمه , ولا يخضع لمؤثراتها , يسخرها لاهدافه , ولا يصبح لها عبدا , فتأسره فيصبح ضحية لمؤثراتها السلبية .
فعلاقة المجتمع المتجدد بالأشياء علاقة ايجابية , تتمثل في سيطرة انسان هذا المجتمع على الاشياء , وتسخيرها بشكل ايجابي , انه حينما يتعامل مع السيارة ( مثلا ) باعتبارها وسيلة نقل , يستفيد منها في الحركة والتنقل ويطوي بها المسافات ويختصر بها الزمن , وليس باعتبارها احد المقتنيات التي يتباهى بها , فتتحول الى منتزه متنقل , تضيع الاوقات بها وتهدر الثروات من اجلها وهكذا بقية الاشياء من تلفزيون وتلفون وغير ذلك.
والعلاقة الحقة التي ينبغي ان تكون بين الانسان والاشياء هي علاقة التسخير والتكييف , فهي العلاقة التي ارادها الله سبحانه وتعالى ان تكون بين خليفته في الارض , وبين الطبيعة التي خلقها الباري عز وجل , ليستعين بها الانسان على الاستقرار , ويلبي حاجاته من خلالها . يقول عز من قائل :
( وسخر لكم ما في السموات والارض جميعا إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) ( الجاثية/13) .
ان اختلال العلاقة بين الانسان والاشياء , تفضي الى عواقب وخيمة , فحين يصبح الانسان جزءا من الاشياء , عندها يصبح شيئا من الاشياء يفقد الروح والارادة , والابداع , ينسلخ من ذاته الانسانية ليتحول الى آلة جامدة , لا حراك فيها , ولا فرق بينه وبينها !
ان انتصار المجتمع على الاشياء – التي كانت – وتكييفها حسب ما تقتضيه ظروف المجتمع لهي دلالة ايجابية على قدرة المجتمع في هضم التحولات الجديدة , واستيعاب الجديد .. انها دلالة على حيوية المجتمع , وتجدده وقدرته الذاتية على التزود بطاقة عملاقة تخضع الاشياء وتكيفها وليس العكس .
ان عمق المشكلة الاجتماعية في بعض نواحيها تتمثل في انتصار الاشياء , التي اصبح لها قيمة كبرى , تتهاوى دونها القيم الاجتماعية .. الم يصبح تحصيل المال بكل وسيلة ( كشئ من الاشياء ) من مطلقات القيم الكبرى , التي يهون من اجلها كل شئ , تهون الاسرة بمن فيها وحتى اذا استلزم الامر ان يصبح البيت جحيما لا يطاق , بسبب غياب الرجل ما دام يسعى لتحصيل المال , الذي يستطيع من خلاله فقط ان يأخذ مكانا مرموقا بين اقرانه , ويتسلق بواسطته سلم المجد ولو كان مزيفا , والهرم الاجتماعي ولو كان مقلوبا !.
الم يصبح ما يعرف بـ( الشياكة ) للمرأة خصوصا مطلبا ضروريا , ولو ادى الى تراكم الديون على ظهر الزوج , وتبديد الثروة ! كل ذلك يعني انتصار الاشياء على الانسان , في مجتمع الجمود الذي يهزم فيه الانسان , وتهزم ارادته وتتفوق قيمة الاشياء , وتصبح نصبا شاخصا , ورموزا مقدسة .
ان سر التوقف والجمود في المجتمعات البشرية , يكمن في وقف الانسان نفسه للاشياء , حيث يختزل كل انسانيته في سبيلها , عندها تتوقف الحياة في عمقها الانساني , وتزحف ادوات الاحتصار , ووسائل الموت الاجتماعي . تماما كما تنمو الطحالب الضارة , عندما يتوقف تدفق امواج المياه عبر نهر كبير .
كما ان لحظة الولادة الحقة للمجتمعات , تسجل في ذلك الوقت الذي ينتصر فيه انسانها على الاشياء , وتتعالى ارادته عليها , وتحلق انسانيته في فضاء القيم والفضائل , وتترجم حياته الى نشاط وابداع وحيوية , انها لحظات التجدد الاجتماعي , التي تمنح المجتمع طاقة عملاقة , يفجر من خلالها طاقاته المختلفة , ويكيف نفسه وما يتلائم والظروف المحيطة به بمرونة متوازنة , وحركية مبدعة , تحفز المجتمع لعطاء بلا حدود , وتمده بعمر مديد , اوليس غريبا حقا في عالم اليوم ان يتحول الانسان المنطوي فيه العالم الاكبر و الذي كرمه الله سبحانه على مخلوقاته . الانسان الهائل بطاقته ومعرفته , الى جرم صغير , والى رذاذ متطاير , والى شئ من الحطام الذري , بفعل الاعلانات التجارية الصاخبة وعالم الدعاية الفجة , التي تلمع السلع , وترمز الاشياء , فيسقط الاطفال والشباب وحتى الكهول , ضحايا لبريق الاعلان الصاخب , صاحب السيكولوجيا القاتلة !!
أهي ادوات ووسائل الثقافة العالمية الكونية التي يبشر بها , فتسقط خصائص الشعوب الثقافية والسلوكية . وتقتل الانسان بالأشياء ![center]