قبيلة حرب في كتاب « التاريخ الشامل »
سررت كثيراً لظهور كتاب جديد في تاريخ المدينة مؤخراً؛ وهو كتاب «التاريخ الشامل للمدينة المنورة » للدكتور عبد الباسط بدر ، وقد ظهرت طبعته الأولى في عام 1414هـ.
ومبعث سروري ما يوحيه العنوان من الشمول في تاريخ هذه المدينة المباركة، لدى المسلمين كافة التي شرفها اللَّه باحتضانها رسول الرحمة والهدى صلى اللَّه عليه وسلم وصحابته رضي اللَّه عنهم، والتي انطلق منها الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
غير أن فرحتي بالكتاب لم تدم طويلاًً، فما أن بدأْتُ القراءة فيه حتى بدأ انطباعي الأول يتبدل شيئاً فشيئاً بعد وقوفي على قدر غير قليل، من الملحوظات المخلّة والهفوات والزلات، ولكنني أكتفي ـ هنا ـ بتسجيل ملحوظة واحدة فحسب، ولعلي أعود إلى غيرها مستقبلاً إن شاء اللَّه.
لقد فوجئت ؛ كغيري ممن اطلعوا على الكتاب ـ بما كتبه الدكتور عبد الباسط بدر عن قبيلة (حَرْب) وتركيزِه على جوانب معينة في تاريخها، وإهمال الجوانب المشرقة: حتى ليخيّل إليك أنه كان يبحث عن ذلك النوع بحثاً مقصوداً.
وهو يتّهم هذه القبيلة الكبيرة بتهم، كالسلب والنهب، والقتل والتّلصُّص والتآمر، وقطع الطريق على الحجاج، وقتلهم وسلبهم، وغزو المدينة وقتل أهلها، ونهب ما يمكن نهبه منها، وأنهم كانوا يعيشون على ذلك، ووصفهم بالإجرام!! وقد كرر ذلك في صفحات عديدة ونَوَّعَ لهم في التهم
(ينظر: «التاريخ الشامل » (2/357، 364، 366، 375، 376، 380، 382، 393، 411، 443، 453، وغير ذلك).
ولا شك في أَنَّ المؤلف قد أساء كثيراً لأبناء هذه القبيلة بما زعم أو نقله من غير تثبت، وكأنه نَسيَ أن (حرباً) من كبريات القبائل، وأن أبناءها يسهمون في بناء بلادنا الغالية ونهضتها، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، في العهد السعودي الميمون، وأن منهم العلماء والدعاة والقضاة والأساتذة الجامعيين وأصحاب الرتب العسكرية العالية، وسواهم من الموظفين والصناع والحرفيين والمزارعين وغيرهم. وأن الإساءة إليهم تعدّ إساءة إلى أبناء هذا الوطن بعامّة.
ولقد أسهمت قبيلة (حرب) مع غيرها في توحيد هذه البلاد، وإدخال المدينة المنورة في حكم آل سعود ، ومن شيوخ قبيلة (حرب) من كان قائداً تحت إمرة الملك عبد العزيز طيب اللَّه ثراه كالشيخ عبد المحسن الفرْم .
ومنهم من ولي إمارة المدينة من قبل الدولة السعودية الأولى ومنهم ابن مُضَيَّان الظاهري وأسرته، ومن شيوخهم من حظي لدى الملك عبد العزيز رحمه اللَّه كابن مُوْقِد، وإسماعيل بن مُبَيْرِيك أمير (رابغ) وابن عَسْم أمير (خُلَيْص).
والحق أن تاريخ القبائل العربية الحجاز ية بعامة مَغْبُونٌ عند أكثر المؤرخين لهذه المنطقة في العصر العثماني الذي ينقل عنهم المؤلف؛ فلا يكاد يُذكر من تاريخ هذه القبائل إلا بعض الجوانب السلبية التي أصابها كثير من التضخيم والتحريف، لما كان بين بعضها ـ كقبيلة (حرب) وبين حكام المدينة ومكة من الأتراك والأشراف من خلاف ونزاع، يصل في أحايين كثيرة إلى حد الإقتتال؛ فكان على المؤلف أن يتحرى الثّقَة والإنصاف فيما يكتب، وهو يدرك أثر ذلك الخلاف والنزاع على جُلِّ المؤرخين الذين يكتبون من وجهة نظر أعداء (حرب) من الأتراك ومن والاهم في كل الأحقاب، وأن أكثرهم كان يتجاهل تماماً الجوانب المشرقة في تاريخ القبيلة وما كانت تقدمه من تسهيلات، وخدمات لسالكي طريق الحج، والمساهمة في نقل الحجيج، أو نقل بضائعهم من قبل طائفة من بني (حرب) امتهنت النقل بالجمال وهم من يسمّون (الجمّالة).
إن التاريخ لا يعبر عن عصره حقيقة إلا في رحاب الحرية التي تنطلق فيها الكلمة بغير قيود، ويعيش فيها المؤرخ بغير حدود، هنالك تجد الحدث الصادق، وترى الشخصيات في ميزان العدالة المطلقة، كما يقول الدكتور محمد السيد الوكيل.
وحَبَّذَا لو أن المؤلف أخذ بمَدلول الكلمة القيّمة التي كتبها الدكتور محمد السيد الوكيل مقدمة للكتاب، وهي تشتمل على كثير من القواعد لمن يريد الكتابة في التاريخ، كالحث على الموضوعية التي تقتضي أن يكون المؤرخ مُتَجرِّداً من كل الميول والأهواء عند التحليل والاستنباط بخاصة لتكون نتائجه بعيدة عن الميل إلى جانب دون آخر.
ومن المعروف أن البحث عن الحقائق في الكتابات التاريخية من الأمور العسيرة التي يعترف بها المؤرخون والباحثون في تاريخ الشعوب. ولعل الصعوبة لا تكمن في كون الباحث ينبش فيما انقضى وتولَّى من غير رجعة وغُلِّفَ بالنسيان فحَسْب، بل تكمن في أن كثيراً من المصادر التاريخية لا يكاد يسلم من الهوى، وهو آفة المؤرخ التي تجعله يزيغ عن جادّة الطريق، منقاداً مع العاطفة.
إنّ ما نقله الدكتور عبد الباسط بدر من المساويء مما أَلصق بقبيلة (حرب) أو غيرها من القبائل لا تثبت عند التحقيق والتمحيص. بل إن ذلك لا يعدو أن يكون خلافاً طبيعاً بين بعض بطون (حرب) وأمراء الحاج، أو ولاة المدينة من الأتراك ومن والاهم، أدَّى في بعض السنين إلى محاولة منع أمير الحاج ومن معه من عساكر وحجاج، وأدى ـ أيضاً ـ إلى نشوب العداء واستسشرائه بين بعض بطون (حرب) وولاة المدينة ، وقد يتطور ذلك الخلاف ويتصل إلى حدّ القتال بين الطرفين.
فليت المؤلف تحرى الدقة والإنصاف في مثل تلك الأحداث بالبحث عن أسبابها الحقيقة، ثم يحكم بعد ذلك فيعطي كل ذي حق حقه، فإن كان لا يسعه البحث في ذلك فإن الأجدر به أن يتجنب الخوض فيه.
وأحاول ـ هنا ـ أن أسلّط بعض الضوء على جذور الخلاف بين حرب وأمراء الحاج أو ولاة المدينة والتمس الأسباب التي أخفاها ذوو الأهواء من مؤرخي العصر العثماني، وهو على النحو التالي:
(أ) نقض المعاهدات والمواثيق:
أدّى ضعف الدولة الإسلامية منذ القرن الرابع إلى استقلال كثير من الإمارات في شرقي البلاد وغربها وشمالها وجنوبها؛ فأغرى ذلك القبائل البدوية فنهجت النهج نفسه واستقلت بأراضيها، وعرفت كل قبيلة حدَّها، وانحازت بمراعيها ومياهها واعترفت لها القبائل المجاروة، ونشأت بذلك عادات وأعراف بين القبائل، لا يحق لإنسان آخر اقتحام حماها بغير موافقتها، وكان من العار والهوان أن تسمح قبيلة لغيرها بدخول أرضها، وانتهاك حماها، ويعدّ ذلك ـ إن حدث ـ علامة على ضعف القبيلة واضمحلالها.
يقول أيوب صبري «مرآة جزيرة العرب » (2/254): (كان لكل قبيلة منطقة خاصة بها، وموقع محدد لها، تَمّ تحديده من قبل عظماء القبائل وكبرائها، لا يجوز لأي قبيلة أن يتعدى نفوذ رجالها هذه الحدود، أما إذا حاول أحد من القبائل الأخرى أو عابر سبيل سولت له نفسه أن يعبر تلك الحدود فلا يمكن أن يكون آمِناً على حياته، بل لا بد أن يتخذ لنفسه أثناء عبوره دليلاً أو رفيقاً من رجالات القبيلة المشهورين، وذوي النفوذ بين أفراد القبيلة كلها... أما إذا حاول أحد الرحالة أن يقطع المسيرة وحده دون الاهتمام بأصول الحماية وقواعدها، فلو سلبت أمواله ومتاعه أو قتل أثناء الطريق فإن دمه أوماله يضيع هدراً، ولا تُلْزَم القبائل بأي شيء طبقاً للأعراف البدوية السائدة بين القبائل).
ومن هنا فقد اعترفت لقبيلة (حرب) بخفارة الطريق في أراضيها الدولة العباسية أيام المقتدر باللَّه وكانت تدفع لهم مخصصاتهم، المعلومة المتفق عليها، واستمرّ ذلك العرف حتى نهاية الحكم العثماني، ثم زال بزوال تلك الدول، وبزوال الأعراف القبلية القديمة حين توحدت الجزيرة العربية على يد المغفور له الملك عبد العزيزآل سعود ، وأصبحت القبائل من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها وبدورها وحضرها أمّة واحدة بحمد اللَّه وبفضله.
وقد وقفت على نصّ قديم يؤكد ما ذهبت إليه وصاحبُه الحسن الهمداني المتوفى في حدود سنة (360هـ) إذ ذكر مواضع حرب فقال عنهم: (غلبوا على طريق المدينة إلى مكة فلم يسرها أحد إلا بخفارتهم، وكان المقتدر باللَّه يبعث إليهم طول حياته بالمال في خفارة الطريق، وإلى اليوم هم على ذلك) «الإكليل » (1/306).
وذكر المؤرخون أن الدولة العثمانية كانت تدفع لقبيلة (حرب) مخصصاتها وتعترف لها بخفارة الطريق غير أن تلك المخصصات على الرغم من قلتها كانت تُبخس أو تُقطع، أو يتلاعب فيها ولاة المدينة وأمراء الحاج بأن توزع على بعض فروع القبيلة، ويحرم منها الآخرون، ممّن استحقوها، وبهذا تنتقض المعاهدات وينشب الخلاف بين الطرفين، وربما كانت موكب أمير الحج هو الضحية لذلك الخلاف.
وأدى ذلك التلاعب من قبل الولاة وأمراء الحج إلى أن تكتلت قبيلة (حرب) لضمان حقها الذي تنص عليه المعاهدات. وفي هذا المعنى يقول الأستاذ عاتق بن غيث البلادي: إن حرباً تكتلت فيما بينها لضمان حقها، لذا فإن أمير الحج المصري كان إذا أراد أن يحرم قبيلة من عائداتها حوّل طريقه مع ديار قبيلة أخرى، ولكن (حرباً) جعلت لذلك قانوناً بينها ألا يَمُرَّ في ديارها قبل أن يدفع ما لجاراتها، ومن هنا نشأت الحالة التي تَسَّمى بعض هؤلاء ومن يرافقهم من الرحالين قبيلة (حرب) قطاع طرق، والحقيقة أنهم يطالبون بمخصّصات متفق عليها من الدولة، وسلمت نقداً لأمير الحاج، ولكنه يريد ـ بشطارته وطرقه الخاصة ـ أن يستلب هذه الأموال في وقت يحاول فيه إيصال الحاج سالماً، ولم يتيسّر الأمران لأحد منهم «نسب حرب » 196.
وقد أدرك هذا عبد القادر الجزيري وهو من علماء القرن العاشر، أشار إليه في كتابه «الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة » وكان ـ كما يقول العلامة حمد الجاسر : كثير الدفاع عن العرب، الذين يمرّ بهم طريق الحج من مصر إلى مكة المكرمة، ممن يقوم بحراسة الحاج عند مرورهم بمنازل ذلك الطريق، مقابل ما تصرفه لهم الدولة من مرتبات سنوية، وهي على ضآلتها عرضة لتصرف بعض أمراء الحاج بها تصرفاً يثير غضب أصحابها: فتسوء ـ بسبب ذلك ـ معاملتهم للحجاج، ولكن الجزيري كان يدرك أن السبب هو التَّصرف في تلك المستحقات؛ فينحي على الأمراء باللائمة، وكثيراً ما حاول إصلاح الأمور بين الطريفين، وتسهيل أمور العربان، وكان يتولى القضاء في بعض ما يحدث بينهم وبين الحاج بحكم عمله، (ينظر: «الدرر الفرائد المنظمة » (1/17).
(ب) إفساد بعض الآمراء وتجبّرهم:
دأب بعض ولاة الأتراك على التجبّر، ومالوا إلى سفك دماءالعرب والإساءة لهم، وكان الجزيري ـ وهو من قضاتهم ـ شاهد عيان على سوء معاملتهم للعرب وظلمهم للرعية. وكثيراً ما جأر من استبدادهم وظلمهم وتجبرهم؛ وذكر في حوادث سنة (970هـ) أن القتيل إذا كان من أولاد العرب والقاتل من الترك فإنه لا يؤخذ له بثأر، بل يذهب دمه هدراً، وعلل ذلك بأنهم ـ أي الترك ـ كانوا يفضلون أنفسهم على غيرهم، ويحتقرون العرب، ولا سيما أبناء القبائل.
ولم تكن الإساءة أو الإفساد مقصورة على الولاة بل إن بعض أمراء الحاج كان لهم فضائع مع عرب الحجاز ومن هؤلاء أمير الحاج المصر ي حسين بن عبد اللَّه الشوا، فقد ذكر الجزيري طرفاً من مفاسده في حجه سنة ثلاث وخمسين وتسع مئة؛ قال: (غير أنه ـ رحمه اللَّه تعالى وعفا عنه ـ كان سفاكاً للدماء، مولعاً بقتل النفس في الحل والحرم ، وحالة الإحرام، وفي تلك المواقف العظام، والمشاعر الكرام، سواء كان المقتول يستحق القتل أم لا، وسواء كانت جريمة المقتول تافهة جداً، ثبتت أم لم تثبت، واتفق له بمنزلةِ (عيون القصب) ذهاباً أن وجد جماعة من عربان الحمل وغيرهم في طرف الحج فأمسكهم، ونوّع لهم القتل، فعلّق بعضهم في حديدة على شجر العِضَاهِ الكبار، وهم أحياء، وأطلق تحتهم النيران الشديدة بعد أن أمر بجمع الأحطاب الكثيرة الصلبة، وأجج النار إلى أن أحرقهم وذاب لحمهم، وأمر الْمُشَاعِلِيَّ أن ينادي تحتهم: يالحم مَشْويِ كُلَ كذا وكذا رطل بنصف، فلقب حينئذٍ بحسين الشوا... وأتذكر أنه عند دخوله إلى مكة المشرفة، وهو متلبس بإحرام العمرة مَسَكَ بوادي (طارف المنحنا) وقت الغروب خمسة أنفار من عربان الحجاز ليست لهم جريمة، وطلب السياف فلم يجده في ذلك الوقت فرمى أعناقهم بيده، وتركهم) «الدرر الفرائد المنظمة » (2/885، 886).
وذكر الجزيري أيضاً أن هذا الأمير قتل بـ (خليص) شاباً صغيراً من أبناء البادية لم يطرَّ شاربه بعد، ولم تكن له جريمة، وآخر حبشياً من عبيد مالك بن رومي من مشايخ (حرب) ولم يكن له ذنب سوى وقوفه بجانب الطريق، معجباً بمنظر موكب الحجيج. فراجعه الجزيري في ذلك، وأخبره بحالة الإحرام، وأن قتل الصيد لا يجوز فيها فكيف ببني البشر؟
وسرد الجزيري كثيراً من فضائعه مع البدو مما تقشعر له الأبدان.
إن مثل تلك التصرفات من أمراء الحاج و ولاة الأتراك كانت تترك أثراً سيئاً في نفوس أبناء القبائل.
(ج) القحط والمجاعات:
ثمَّة أسباب أخرى لاعتراض سبيل الحاج، إلا أنها أقل أهمية مما تقدم، منها شحّ الماء في الآبار، وهو أمر معروف في أراضي الحجاز قليلة الماء، لا سيما في سنوات الجدب والقحط، فلا يكاد يكفي ما في الآبار والركايا لسقي أبناء القبيلة المستوطنين من حولها وسقي مواشيهم، ولذا فإن موسم الحج كان يثير الخوف والرعب لتلك القبائل من الموت عطشاً، ولا سيما إن صادف دورة الصيف مع انحباس القطر.
وهذا ما جعل قبيلة (الأجاودة) وهم بطن من غَزِيّة من طيء ، يقدمون على منع الحاج العراقي سنة 631 وردِّهِ من حيث أَتَى بعد أن أغلقوا بعض الآبار خوفاً من نفاذ ما فيها من ماء قليل (ينظر: «العسجد المسبوك » 299، و«قرة العيون » لابن الديبع 124).
فلا نعجب أن تمنع بعض بطون (حرب) مرور مواكب بعض الحجيج من سلوك بعض الطرق المؤدية إلى مياهها، ولا سيما ما كان يقع على الطرق الفرعية الداخلية.
ويتصل بذلك حدوث المجاعات التي كانت تجتاح الحجاز بين الفينة والفينة، والتي كانت تحمل البؤس لسكان المنطقة ولا سيما البادية، وقد تشتد بهم الحال فيعيشون على أوراق الشجر اليابسة بعد دقّها وطحنها.
وبلغ ببعضهم الحال أن أكلوا الكلاب والحمير والجيف. وحكى بعض المسنيين من أبناء البادية أن أباه لم يجد سوى نعله المصنوعة من جلد قديم فاشتواها وأكلها وشرب عليها الماء فإنقذ حياته من الموت.
وكان بعضهم يسير وهو شبه عار بسبب الفاقة الشديدة.
وفي ذلك يقول بعض المؤرخين في وصف حالهم وصبرهم: (وليس هناك على سطح الأرض كلها من عاني معاناة بدو جزيرة العرب، ولا من صبر صبرهم على الجوع والعطش... والذين (كانوا) يصبرون على الجوع والعطش لمدّة يومين أو ثلاثة أيام لعدم وجود ما يقتاتون به من بين قبائل جزيرةالعرب لا حصر لهم ولا عدّ («مرآة جزيرة العرب » (2/369).
فلا جرم أن تدفع مثل تلك الحالة البائسة بعض أفراد القبائل إلى مَدّ أيديهم لقوافل الحجيج لعلهم يظفرون بشيء، وكانوا يتلقفون ـ بفرح ـ ما يقذفهم به بعض الحجيج من قشور الفاكهة التي كانوا يحملونها معهم.
وقد تدفع الفاقة ـ عندما لا ينفع الاستجداء ـ إلى استخدام القوة. ويحكي لنا ابن جرير في «تاريخه » حوادث سنة 251 ـ خبر اعتراض بعض بني عقيل الطريق بينجدة ومكة، وكان شاعرهم يرتجز ويقول:
عليك ثوبان وأمي عاريه فألق لي ثوبك يا ابن (...)
وروى البيت برواية أخرى مذكور في كتب التاريخ.
ولعلنا نجد لهم بعض العذر في ذلك، وإن كان الإسلام الحنيف الذي يحمي ملكية الفرد لا يقرّ مثل تلك التصرفات مهما كانت الدوافع والأسباب.
تلك بعض الأسباب التي أدت إلى نشوب الخلاف بين (حرب) وولاة المدينة أو أمراء الحاج والتي أدت إلى أحياناً إلى اعتراض الطريق ومحاولة صَدِّ الحاج.
والمعروف أن بني (حرب) في جملتهم أهل دين وحياء، وقد شهد لهم بذلك من عرفهم وعاشرهم من مُطير وسُليم وجُهينة، بل شهد هم بعض الأجانب فامتدحهم، ومن هؤلاء المؤرخ التركي أيوب صبري باشا الذي قال بعد أن ذكر بعض بطونهم (وكافة هذه القبائل تقوم على خدمة الحجاج الكرام، وتأجير الجمال لهم، ونقل المهمَّات والمُؤَن في المدينة المنورة. وفي هذه المناطق... وهم جميعاً أهل طاعة وانقياد، لا يميلون إلى التمرد أو العصيان)، («مرآة جزيرة العرب » (2/276).
وهم كذلك في عصر الدولة السعودية الميمون، ولم تسجل عليهم حادثة واحدة مع الحجاج أو غيرهم منذ ما يزيد على نصف قرن، ولعل في هذا ما يؤكد ما ذهبت إليه في تفسير خلافهم مع ولاة الدولة العثمانية وأمراء الحاج.
وبعد هذا التوضيح فإنني أدعو الدكتور عبد الباسط بدر إلى إعاداة النظر فيما كتبه عن قبيلة حرب، وردّ الحقّ إلى أصحابه.
كما أدعو أصحاب التخصص والمعرفة للإدلاء بدلائهم في هذا الموضوع المهم لإيضاح الحقيقة، وإضافة حلقة في تاريخ هذه البلاد الغالبة.
المدينة المنورة: د. عبد الرزاق بن فراج الحربي