الانتصار في معركة .. والحصول على مكسب وقتي ... والوصول إلى السلطة.. هذه كلها ليست هي قضية التاريخ .. ولا معركة التقدم البشري .. بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم.. إن الانتصار في معركة .. قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء ، فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر .. يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ، واستمرارا للسير الخطأ ، وتماديا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية .. هكذا سار التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته .. كان النصر بداية الهزيمة ، وكانت الهزيمة بداية للنصر !
وحين يصل إنسان ما إلى الحكم .. دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة ، ودون أن يكون في مستوى أمته .. يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم .. !
والتاريخ في دوراته غريب وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة ، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس ، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود !
وعندما أعلن " أحمد بن طولون " مؤسس الدولة الطولونية في مصر انفصاله عن الدولة العباسية بعد سنة 254هـ ، كان ينقصه الوعي بحركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيير ، وكان بإنشائه هذه الدولة ليس أكثر من " انقلابي " سيطر على الحكم في ظل أوضاع معينة مرت بها الدولة العباسية ، سمحت له ولأمثاله بإظهار مطامحهم في مزيد من السلطة والشهرة والرغبة الجامحة في السيطرة . لم يحاول هذا الرجل - ما دام قد وصل إلى مستوى الثقة لدى الجهاز العباسي الحاكم - أن يتقدم بإصلاحاته ، وأن يبحث عن السبل المؤدية لحماية الدولة الإسلامية الجامعة ، وإنما راح في إغراق في عبودية الذات يبحث عن استغلال الظروف لصالحه .
ومنذ استقر في مصر سنة 254هـ وهو يحاول جمع كل مقاليد السلطة في يده ، فيتخذ من الإجراءات ما يجعله الرجل الوحيد في مصر ، وليس الرجل التابع لدولة إسلامية كبرى تستطيع عزله وتولية غيره . وقد عزل - في سبيل ذلك - عامل الخراج الذي عينه العباسيون على مصر - وتمكن من التحكم في الشئون المالية إلى جانب الشئون الإدارية والعسكرية .
ودخل أحمد بن طولون في صراع مع الدولة العباسية الجامعة وانتصر على أخي الخليفة أبي أحمد " الموفق " واتخذ من الإجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي .
لكنه في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى هجوم .. فنشأته على النحو السابق تحمل في أحشائها النهاية الطبيعية العاجلة . ورأت الخلافة من الحكمة أن تستغله . بدل أن تدخل معه في صراع ، وكلفته بمهام جديدة ، منها حماية الثغور الشامية .. ومات أحمد بن طولون تاركا دولة تقف كلها على أقدامه وحده وليست لها أقدام أخرى .. من عناصر الحياة التاريخية والحضارية ولذا فإنها بموته وقعت على الأرض.. وعلى الرغم من كل ما أبداه " خمارويه " ابنه من اتباع لسياسة أبيه ، ومن تمسك بمعالم استقلال وقوة دولته المستقلة .. إلا أنه لم يعد أن يكون مرحلة عبرها التاريخ ليدخل بالدولة - فورا - في مرحلة الأفول والفناء .
فبعد خمارويه انغمس الأمراء الطولونيون في لهوهم ، وتفشت ظاهرة حب السلطة والاستقلال لدى عمالهم في الأقاليم . وانقلب الثوريون على أنفسهم ، أو بالتعبير الدارج .. بدأت طلائع الثورة يأكل بعضها البعض . وقد ولي الأمر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يزد حكمهم على عشر سنوات ، ولم تستفد البلاد المصرية أو الشامية منهم شيئا غير الفوضى والتنافس بين الطامعين في السلطة أو الفساد الذي نجم عن الترف ، وعن الاستبداد وغيبة الأمة عن الرقابة أو الحكم .. وفي هذه الحال .. لم يكن الأمر متعبا بالنسبة للدولة العباسية .. فتقدمت جيوشها لاسترداد مصر من خامس الولاة الطولونيين وهو " شيبان " الذي كانت الفوضى قد وصلت في عهده قمتها وأعلى معدلات خطورتها ، وشهدت سنة 292 هـ دخول هذه الجيوش إلى القطائع في القاهرة .. ومن فوق المنبر أعلن إزالة الدولة الطولونية التي لم تستطع أن تحكم أكثر من أربعين سنة عاشتها في صراع خارجي وعاشت معظمها في صراع داخلي ، مع شعب لم يهضم حركتها التي لم يكن لها المبرر الحضاري الهام لإحداث التغيير .
وعادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية .. وعلى امتداد تاريخنا سجلت صفحاته عشرات من الانقلابات وسجلت أسماء مئات الانقلابيين .. ولكنهم - جميعا وبلا استثناء - لم يقدموا ما يتوازى مع أحجام الخسائر التي كبدوها لأمتهم .. لأن الانقلاب ليس الوسيلة التاريخية المهيئة للتغيير ، إذ هو موجة انفعالية سرعان ما تنحسر محدثة رد فعل انحساري عنيف .. ودائما ... دائما أثبتت كل تقلبات تاريخنا كما أثبتت كل تطورات الحضارة " أن الانقلاب يدفع إلى انقلاب .. وأن حركة التاريخ لا تندفع بالعنف والانفعال " !!