مصرع المركيزة الحسناء!
المركيزة دي جانج تآمر عليها زوجها وشقيقاه طمعا في ثروتها الضخمة!
ماأعجب أحداث التاريخ، وما أغرب الصور التي مرت به، والانسان يتعجب من هذه الاحداث التي تبدو لأول وهلة انها غير معقولة، ولكن يزول العجب عندما نعرف ان الانسان هو الانسان، سواء أكان يعيش في العصر الحجري أو يعيش في عصر غزو الفضاء. وهذه القصة المثيرة التي حدثت في القرن السابع عشر والتي نلخصها عن كتاب (أشهر المحاكمات التاريخية).. والكتاب من تأليف ألرايت ايرول أوت بيركنهد، وكان محاميا وسياسيا ووزيرا في وزارة لويد جورج الائتلافية بعد الحرب العالمية الأولي، وعرب الكتاب المستشار محمد زكي اسحق رئيس محكمة الاستئناف الأسبق.
والقصة تدور حول مصرع المركيزة دي جانج، وقاتلها القس (دي جانج).. والمركيزة دي جانج كانت زوجة أخيه، وكانت جميلة ومتدينة، وقد لمعت في بلاط الملك لويس الرابع عشر، وكانت ثرية ورثت عن جدها ماينيف علي العشرين ألفا من الجنيهات ثمن أراض زراعية وكان اسمها قبل الزواج 'مدموازيل شاتو بلان'.
وقد تزوجت أول مرة وكانت في الثالثة عشرة من عمرها علي المركيز (ده كاستلان) الابن الاكبر للدوق دي فيلار من اعرق الاسر الفرنسية وكان ذلك في عام 1649، الذي قدمها الي البلاط الملكي، واعجب بجمالها ورقتها لويس الرابع عشر، واطلق عليها اسم 'الريفية الحسناء'.. حتي ان ملكة السويد (كريستينا) عندما رأتها اعجبت بجمالها وقالت انها لوكانت رجلا لوقعت في غرامها من أول نظرة!
وعندما مات زوجها الشاب غرقا علي ظهر سفينة بالقرب من جزيرة صقل يدا، امتنعت عن الظهور في حفلات القصر الملكي، ثم عاشت فترة مع والدتها ثم انتقلت الي قرية أفينون لتباشر الزراعة في أرضها. ثم وقع اختيار المركيز دي جانج لها لتكون زوجة له وكانت في العشرين من عمرها.. وكان هذا الرجل غير عابيء بها ولا ملتفت لجمالها، بل كان يبحث عن اللذة والتسلية مع نساء أخريات، وكان شديد الغيرة عليها وسارت الاحداث الي ان زاره أخاه الأكبر (القيس دي جانج) ليقيم معه ومعه شقيقه الأصغر ضعيف الارادة، السقيم الخلق وكان يلقب بالفارس!!
وسرعان ما بسط الاخ الاكبر نفوذه علي الاخوين، وراقت له زوجة أخيه فأحبها وراودها عن نفسها فرفضت كل محاولاته غير الاخلاقية وصدمته بعنف، وكان رد الفعل ان هام بها حبا وزاد هيامه بها، وصارحها بهواه، ولكنها ردته، ولم تأبه بتهديداته بأن يوغر عليها صدر زوجها، وذكرته انه رجل دين، وعليه ان يبتعد عن هذه الصغائر ثم رمته بنظرة ازدراء قائلة له:
­ لو كنت ضعيفة الخلق الي هذا الحد كما يصور لك ذهنك السقيم فإنك آخر شخص أفكر في أن أمارس معه هذا الضعف!!
واغتاظ الرجل وحاول مرة اخري ان يعود ويواصل ضغوطه عليها حتي يحقق هدفه، لعلها تلين وتبادله حبا بحب، ولكن دون جدوي.
وزاد من حنقه عليها ان علاقتها بأخيه الملقب بالفارس حسنة، فهو لم يخرج عن وقاره معها،، ولكن القسيس ظن ان بينها وبين اخيه علاقة ما، وأن بينهما مشاعر الحب، وقد أغراه أخوه الأكبر ان يكون معها علاقة حب حتي ينتهز هو الفرصة ويوقع بينها وبين زوجها!!
فما كان من المركيزة إلا ان احتقرته كما احتقرت الأخ الأكبر، ولم يكن هناك من وسيلة امام هذا القسيس الذي نسي ان من مهمته الحفاظ علي الأخلاق، فأخذ يحدث زوجها عن عدم اخلاص زوجته له!! ومن هنا أخذت العلاقات بينها وبين زوجها تزداد سوءا.
وتمضي الاحداث
ويموت احد أقارب المركيزة الأثرياء، والذي آلت ثروته إليها، وأغري بريق الذهب الاخوة الثلاثة الذين فكروا في طريقة للاستيلاء علي هذه الثروة التي آلت إليها!
وفطنت هي لخطة الاخوة الثلاثة الذين حاولوا قتلها بالزرنيخ ولكن الخطة فشلت لأن من دس لها السم في القشدة لم يدرك ان القشدة تحوي عنصرا مضادا للزرنيخ وبذلك قد فسد مفعوله.. قررت المركيزة ان تكتب ثروتها لأمها وحررت وصية بذلك وذهبت الي موثق العقود الرسمية وسجلت هذه الوصية، وأشهدت عليها رجلين من رجال الكنيسة.
وانتقل المركيز مع زوجته وأخويه الي قصره في (جانج) وهي ضاحية من ضواحي (أفينون) لتمضية فصل الشتاء هناك، ذهبت الي هذا القصر خائفة من الانتقام.. ودخل عليها القسيس وطلب منها ان تكتب أموالها لزوجها فرفضت، وعاد إليها وفي يده اليسري كوب به شراب أسود اللون، بينما شهر بيده اليمني مسدسا في وجهها وصاح قائلا:
­ لابد من موتك.. فاختاري الميتة التي تشائين.. إما بالرصاص أو بالسم أو بالسيف!
* * *
استغاثت ولكن لم تعد تسمع إلا رجع بكاء.. استعطفت بلا جدوي.. ودخل الاخ الفارس ولم يحرك ساكنا وأرغمت علي شرب السم..!
وخارت قواها، وخرج الاخوان وهما علي يقين بأنها سوف تموت، وتحاملت هي علي نفسها وقفزت من النافذة المطلة علي حديقة القصر، ثم وضعت اصبعها في حلقها وأفرغت مافي بطنها، وخفف ذلك من أثر السم، ثم انطلقت بسرعة الي الطريق وصرخت طالبة النجدة.
ولحق بها القسيس وأخوه، وحاولا ان يقنعا الناس بان زوجة أخيهم مصابة بلوثة عقلية وثم أمر الناس بالتفرق حتي لايروا امرأة أخيهم بهذه الحالة المزرية، ثم هددهم بالمسدس، وأدخلها الي احد المنازل المجاورة.
وماكادت تدخل المنزل حتي استل الاخ الملقب بالفارس السيف وأخذ يطعنها في كل أجزاء جسدها، وغرقت هي في دمها، بينما خرج ليبشر أخاه بانه قتل المركيزة!!
ودخل الشقيق الاكبر ليطلق عليها الرصاص أيضا حتي يخمد آخر انفاسها، ولكن الزناد لم ينطلق لخلل فيه، وما أن شاهد الناس المركيزة وهي غارقة في دمائها حتي تأكدوا ان الامر ليس امر امرأة فقدت عقلها كما يدعي الجانيين، ولكن الامر هي امر جريمة محكمة، وعندما حاول الناس الامساك بالجانيان والفتك بهما، تمكنا من الهرب، بينما كانت المركيزة مازالت تنبض بالحياة، وحاول النسوة اسعافها بينما سارع البعض لابلاغ البوليس، عن الجانيين اللذين فرا وهربا دون ان يتمكن الناس بالامساك بهما!!
* * *
وجاء البوليس
وتحدثت المركيزة عن الاخوة الثلاثة الذين ارتكبوا هذه الجريمة.. وتحدثت عن الدوافع التي دفعت كل منهما لقتلها..
وظهرت الحقيقة امام الناس وامام البوليس ثم سرعان ما فاضت روحها.. وعند تشريح جثتها عثر علي كمية كبيرة من السم في أمعائها كانت السبب المباشر في الوفاة.
ونقرأ ختام هذه الجريمة البشعة:
أصدر برلمان تولوز أمرا بالقبض علي الاخوة الثلاثة، فقبض علي المركيز، أما القسيس والفارس فلم يعثر لهما علي أثر.
وصدر الحكم حضوريا علي المركيز بالسجن مدي الحياة وبمصادرة أمواله وممتلكاته، وباعدام القسيس والفارس بعد القبض عليهما بطحن عظامها في آلة التعذيب.
ولم يرض الرأي العام عن الحكم الصادر ضد المركيز إذ كان يري أنه أيضا يستحق الاعدام كشقيقيه.
* * *
وكانت العادة المتبعة في ذلك العهد هي السماح للمحكوم عليهم بالسجن المؤبد بالالتحاق بالجيش الذي يحارب الاتراك، فالتحق به المركيز حيث قتل في أول موقعة حربية اشترك فيها، كما قتل الفارس في احدي المعارك وكان قد تطوع خفية في الجيش. أما القسيس القاتل فقد تمكن من الافلات من يد العدالة وهرب الي هولندا حيث تسمي باسم (لامارتيليير).. ووقع في غرام احدي قريبات (الكونت دي ليبا) حاكم مدينة (خين) الذي رفض الموافقة علي زواجه من قريبته بحجة انه لايعرف عن اصله شيئا ولكن هذا الزواج تم بالرغم منه.. إذ كانت الفتاة خليلة للقسيس العاهر من مدة قبل ان يتقدم رسميا لطلب يدها.
ويقول مؤلف الكتاب:
ومن الغريب ان القسيس اعترف لزوجته بقصته كاملة، وان اسمه الحقيقي هو (دي جانج) فكانت المسكينة ترتعد فرائصها كلما نظرت إليه ولكنها لم تفض لاحد بهذا السر الرهيب، وقضي القس نحبه في هولندا علي انه السيد (لامارتيليير) الطيب القلب!!
* * *
أليست هذه الجريمة العجيبة تعطي صورة للنفس البشرية عندما تعميها الأهواء والشهوات، وعندما يحتجب الضمير، ويتحول الانسان الي وحش كاسر يتصرف بغباء شديد.. لايحد من أهوائه وشهواته حدود، ويصبح كل همه بعد ان يعميه الحقد عن الحقيقة، فيرتكب مالا يمكن ان يتصوره من كان في قلبه مثقال ذرة من فضيلة أو حياء.. ولكنه الانسان عندما ينسلخ عن انسانيته فيصبح مسخا آدميا قبيحا لايستحق الرثاء.. بل يستحق ان يهال عليه تراب النسيان، بعد ان ينال جزاءه في أعماق السجون، أو في غياهب الاعدام!