ثالثاً: كيفية مخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء:
يـظـهـر مما تقدم من الأحاديث ـ والله أعلم ـ أن الأكمل هو صوم التاسع والعاشر؛ لأنه هو الذي عزم على فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن صحـح حديث: "وصوموا قبله يومًا، أو بعده يومًا" فإنه قال بمشروعية صيام الحادي عشر لمن لـم يصم التاسع، لتحصل له مخالفة اليهود التي قصد إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ خاصـــــة أن من أهل العلم من يرى كراهية إفراد العاشر بالصوم؛ لما فيه من موافقة اليهود ومخالفة الأمر بمخالفتهم، وأيضًا خشية فوات العاشرومن أهل العلم مـن قــــال بأفـضـلـية صوم الثلاثة أيام: التاسع والحادي عشر مع العاشر، وحجتهم الرواية المتقدمــــة: "صومــوا يومًا قبله، ويومًا بعده"، وأيضًا: الاحتياط لإدراك العاشر، ولأنه أبلغ في مخالفة اليهود
رابعاً: أعمال الناس في عاشوراء في ميزان الشرع:
الناظر في حال الناس اليوم يرى أنهم يخصصون عاشوراء بأمور عـديـدة. ومن خلال سؤال عدد من الناس من بلدان عدة تبين أن من الأعمال المنتشرة التي يحــرص عليها الناس في عاشوراء: الصيام ـ وقد عرفنا مشروعيته ـ.
ومنها: إحـيـاء لـيـلــة عـاشــوراء، والحرص على التكلف في الطعام، والذبح عموماً لأجل اللحم، وإظهار البهجة والـســــرور، ومنها: ما يقع في بلدان كثيرة من المآتم المشتملة على طقوس معينة مما يفعله الروافض وغيرهم.
وحتى نعرف مدى شرعية تلك الأعـمــال فتكون مقربة إلى الله، أو عدم مشروعيتها لتصير بدعاً ومحدثات تُبعِد العبد عن الله؛ فإنــه لا بد أن نعلم جيداً أن للعمل المقبول عند الله ـ تعالى ـ شروطاً مـنـهـا: أن يـكـــون الـعـامـــل متابعاً ـ في عمله ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم[
وإذا نظرنا في أفعال الناس في عاشوراء ـ سواء ما كان منها في الحاضر أو الماضي أو الماضي القريبـ رأينا أنها على صور عدة:
أ - مـا كــان مـنـها في باب العبادات؛ حيث خصوا هذا اليوم ببعض العبادات كقيام ليلة عاشوراء، وزيارة الـقـبـور فيه، والصدقة، وتقديم الزكاة أو تأخيرها عن وقتها لتقع في يوم عاشوراء، وقراءة سورة فيها ذكر موسى فجر يوم عاشوراء ... فهذه ونحوها وقعت المخالفة فيها في سبب العمل وهو تخصيصه بوقت لم يخصه الشارع بهذه الأعمال، ولو أراده لحثَّ عليه، كما حث عـلـى الـصـيـام فـيــــه، فيُمنع من فعلها بهذا التقييد الزمني، وإن كانت مشروعة في أصلها.
ولأن باب الـبـدع لا يـقــف عـنــد حدّ فإن البدع في العبادات قد تنال كيفية العبادة، كما اختلقوا حديثاً موضوعاً مكذوباً في صلاة أربع ركعات ليلة عاشوراء ويومها، يقرأ فيها ((قل هو الله أحد)) [الإخلاص: 1] إحـدى وخمـسـين مرة[، وخرافة رقية عاشوراء، ونعي الحسين ـ رضي الله عنه ـ على المنابر يوم الجـمــعـة[، وكالـمـنكرات المصاحبة لزيارة القبور.
ب - ما كـان مـن بـاب العادات التي تـمـــــارس في عاشوراء تشبيهاً له بالعيد، ومن ذلك:
الاغتسال، والاكتحال، واستعمال البخور، والتوسع في المآكل والمشارب، وطحن الحبوب، وطبخ الطعام المخصوص، والـذبح لأجل اللحم، وإظهار البهجة والسرور. ومنها عادات لا تخلو من منكرات قبيحة.
وهــــذه فـي أصـلـهــا نشأت وظهرت رد فعل لمآتم الرافضة التي يقيمونها حزناً على مقتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ فكان من الناصبة[/url] أن أظهروا الشماتة والفرح، وابتدعوا فيه أشياء ليست من الدين، فوقعوا فـي التشبه باليهود الذين يتخذونه عيداً ـ كما تقدم
وأما ما روي من الأحاديث في فضل الـتـوســعة على العيال في عاشوراء فإن طرقها ضعيفة، وهي وإن رأى بعض العلماء أنها قوية فإن ضـعـفـها لا ينجبر، ولا ينهض لدرجة الحسن.
أما الاغتسال والاكتحال والاختضاب فلم يثبت فـيــه شيء البتة[، ولمَّا أشار ابن تيمية إلى ما روي من الأحاديث في فضل عاشوراء قال: "وكــــل هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصح في عاشوراء إلا فضل صيامه"[وبذلك تعرف أن الشرع لم يخص عاشوراء بعمل غير الصيام، وهذا منهج الرسول صلى الله عـلـيـــه وسلم، ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب: 12]. وكم فات علـى أولـئـك المنشغلين بتلك البدع من اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته!
ج - مآتم الشيعة (الرافضة والباطنية):
أما بالنسبة لمآتم الشيعة فإنه لا نزاع في فضل الحسين ـ رضـي الله عنه ـ ومناقبه؛ فهو من علماء الصحابة، ومن سادات المسلمين في الدنيا والآخـــرة الذين عرفوا بالعبادة والشجاعة والسخاء ...، وابن بنت أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، والتي هي أفـضـل بناته، وما وقـــع من قتله فأمر منكر شنيع محزن لكل مسلم، وقد انتقم الله ـ عز وجل ـ مـن قـتـلـتـه فأهانهم في الدنيا وجعلهم عبرة، فأصابتهم العاهات والفتن، وقلَّ من نجا منهم.
والذي ينبغي عنــد ذكـر مصيبة الحسين وأمثالهـــا هــو الصبر والرضى بقضاء الله وقدره، وأنـه ـ تعالى ـ يختار لعبده ما هو خير، ثم احتساب أجرها عند الله ـ تعالى ـ.
ولكن لا يحسن أبداً ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي يُلحَظُ التصنع والتكلف في أكثره، وقد كان أبوه عليٌّ أفضل منه وقُتل، ولم يتخذوا مـوته مأتماً، وقتل عثمان وعمـر ومات أبو بـكـر ـ رضي الله عنهم ـ، وكلهم أفضل منه .. ومات سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في يوم موته ما هو حاصـــل فـي مقتل الحسين. وليس اتخاذ المآتم من دين المسلمين أصلاً، بل هو أشبه بفعل أهل الجاهلية[
قال ابن رجــب عن يوم عاشوراء: "وأما اتخــاذه مأتماً كما تفعله الرافضــة؛ لأجــل قتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ فيه .. فـهــو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً، فكيف بمن دونهم؟"
ولقد كانت بعض تصرفات الرافضة في مآتمهم موضع انتقاد من بعض علمائهم، مع إصرار الجميع على المآتم والحزن.
ففي مقابلة مع أحد مراجعهم(45)[/url] سئل: "هناك أيضاً قضية عاشوراء التي لا تحبذها؟" فأجـاب: "عاشـــــوراء لا بـد أن تتحرك مع الخط العاطفي، ولكن لا أوافق على الاحتفال بعاشوراء بطريقة ضرب الرؤوس بالـسـيوف، وجلد الأجساد بالسلاسل الحديدية، وأنا قد حرمت هذا". ثم طالب بأساليب للتعبير عـن العاطفة أكثر (عصرية)، وذكر منها استخدام المسرح، حتى يكون لعاشوراء امتداد في العالم![
والملاحظ أن مآتم الرافضة في عاشوراء لم تـرتـبــط بأصل إسلامي من قريب أو بعيد؛ إذ لا علاقة لها بنجاة موسى \، ولا بصيام النبي صلى الله عـلـيــه وسلم، بل الواقع أنهم حولوا المناسبة إلى اتجاه آخر، وهذا من جنس تبديل دين الله ـ عز وجل ـ.
خامسًا: وقفات وفوائد:
1- حين يعظم الكفار بعض الشعائر:
تقدم في حديث عائشة الصحيح أن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، وعنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوماً تُسْتَرُ فيه الكعبة ..."[ وقد قيل في سبب صيامهم أنهم أذنبوا ذنباً فعظم في صدورهم،فقيل لهم: صوموا عاشوراء[، وقيل: أصابهم قحط، ثم رفع عنهم، فصاموه شكراً،و"لعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة، وغير ذلك"[وأياً كان الحامل لهم على ذلك فإنه ليس غريباً بقاء أثارة من تدين عند الكفرة والمشركين، وهــذا ـ غـالـبـاً ـ هو حال المبدلين شرع الله. ولكن وجود شيء من ذلك لا يعني استحسان حالهم العامة بإطلاق مع بقائهم على الشــرك والكفــــر؛ لأن مــيزان التفضيل هــو التـزام الديــن قلباً وقالباً عــن رضـىً وقبـــول ـ كما أراده الله ـ، لا تجزئة الدين والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببـعـض، ولا التعلق بمجرد شعائر خالية من اليقين والإيمان الخالص الذي هو دليل الشكر الصادق، وسبب التكفير والمغفرة ـ لمن سعى لذلك ـ.
يقول الله ـ عز وجـــل ـ: ((مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْـمَــالُهُمْ وفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ)) [التوبة: 17، 18].
وهكذا الحال بالنسبة لبعض المنتسبين لهذه الأمة في التزامهم بعض شعائر الإسلام وتركهم كـثـيـراً مـنها؛ فذلك شبه باليهود الذين أنكر الله عليهم بقوله: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَـمَـــــــا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة: 85]. كـحـــال من يكتفي من الإسلام بصيام رمضان، أو الإحسان إلى الناس مثلاً، مع فساد المعتقد، أو إهمال الصلوات، أو الركون إلى الكفرة وتو