(( قصة اكتشاف الانسولين ))
نحن نعرف جميعا الان علاقة مرض السكر بهورمون " الانسولين " الذي تفرزه غدة البنكرياس ، ولكن كيف اكتشف العلماء تلك العلاقة ؟ … لذلك قصة طريفة … فمرض السكر معروف من قديم الزمان ، ذكره (( أبقراط )) في القرن الخامس قبل الميلاد ، ووصف أعراضه وصفاً دقيقاً ، ولكنه لم يفطن إلى وجود السكر في البول وقتها، وظل الأطباء من بعده زهاء عشرين قرناً لا يفطنون إلى ذلك أيضا ، حتى جاء الطبيب الإنجليزي (( ويلبس )) ولاحظ أن بول المريض بهذا المرض يختلف عن البول العادي بحلاوة مذاقه كأنه مخلوط بالعسل أو بالسكر … ولكن ما علاقة ذلك كله بالبنكرياس ، وكيف اكتشفت تلك العلاقة ؟
كان المعروف عن غدة البنكرياس أن عملها الوحيد هو إفراز عصارة خاصة تدفعها في قناة تصبها في الأمعاء ، لكي تكمل هضم الطعام بعد خروجه من المعدة ، هذه كانت معلومات علم الفسيولوجيا ـ علم وظائف اعضاء الجسم ـ الى قرب مطلع القرن العشرين .
وفي عام 1889 م ، كان الأستاذ (( فون مرنج )) يجري تجارب عن استئصال غدة البنكرياس في الحيوان، ليلاحظ ما قد يطرأ على وظائف الهضم من عجز او اضطراب ، ولكنه وجد أن الحيوان ـ علاوة على اضطرب هضمه بعد إجراء العملية ـ قد أصيب بأعراض تشبه أعراض مرض السكر في الإنسان … ثم جاء من بعده الأستاذ (( لانجرهانز )) ، وأثبت بالفحص المجهري ان غدة البنكرياس تحوي ـ عدا الخلايا المعروفة ذات الإفراز الخارجي ـ خلايا أخرى تعرف الآن باسم (( خلايا لانجرهانز )) ، لها افراز داخلي يسير في الدم فينقذ الإنسان من مرض السكر، و ما كادت هذه الحقيقة تذاع حتى اهتم بها الباحثون والعلماء وراحوا يحاولون الحصول على هذا الإفراز الداخلي ، من غدة الحيوانات ، لكي يستعملوه في علاج مرض السكر ، ولكن جهودهم ومحاولاتهم ذهبت أدراج الرياح .
ثم قامت الحرب العالمية الاولى ، وأخذت أصوات المدافع تهدر فوق الأراضي الفرنسية ، وفتح الموت فاه ليبتلع الآلاف من شباب الأمم الذين هرعوا من وراء البحار ليقدموا أجسامهم الفتية وقودا لنيرانه ، وكان من بين هؤلاء الشبان فتى كندي من طلبة الطب ، أصيب في إحدى المعارك بجرح خطير ، فعاد الى وطنه في كندا ليواصل دراسته الجامعية ، ثم تخرج الفتى ونال اجازة الطب وفتح لنفسه عيادة صغيرة وضع على بابها لافتةً نحاسية تحمل اسمه : (( فريدريك بانتنج )) .
ومضت الأسابيع الأولى بطيئة مملة في انتظار المريض الأول ، فكان يشغل وقته بالاطلاع على المؤلفات والمجلات الطبية ، وفي إحداها وجد مقالا آثار اهتمامه ، وكان صاحب المقال يعرض فيه حالة مريضة تشكو من وجود حصاة كبيرة في المرارة ، وقد ضغطت هذه الحصاة على قناة البنكرياس ضغطاً أدى إلى انسدادها ، ثم توفيت المريضة بعد أسابيع قلائل ، واتضح من فحص البنكرياس بعد الوفاة ان الخلايا ذات الإفراز الخارجي قد ضمرت حتى اختفت ، أما خلايا (( لانجرهانز )) ذات الإفراز الداخلي فقد بقيت سليمة . . . قد أطلع على هذا المقال عدد كبير من الأطباء في أنحاء العالم دون ان يثير اهتمامهم ، أو يبعث التفكير في أذهانهم ، أما (( بانتنج )) فانه ما كاد يفرغ من قراءته حتى اخذ يخاطب نفسه : (( اذا كان الأمر كذلك فما علينا الا ربط قناة البنكرياس في الحيوان ثم نتركه بضعة اسابيع حتى تضمر خلايا الافراز الخارجي ، وبعد ذلك نعود اليه ونستأصل منه غدة البنكرياس فنجد فيها خلايا (( لانجرهانز )) ذات الافراز الداخلي وحدها ونستطيع الحصول على خلاصتها واستعمالها في مرض السكر )).
وفي تلك الليلة أرق (( بانتنج )) ، وتقلب في مضجعه طويلا، وهو يدير هذه الفكرة في رأسه ، حتى اذا أسفر الصباح ، هرع الى كلية الطب ، حيث قابل الأستاذ (( ماكليود )) العالم بوظائف الأعضاء ، وأفضى اليه بفكرته … ورفع الأستاذ رأسه الضخم المشتعل شيبا ، ونظر الى محدثه بارتياب وهو يقول متسائلاً : (( وهل تمكنت ايها الشاب من دراسة غدة البنكرياس من الوجهة التشريحية وغير التشريحية ؟ وهل حذقت وسائل تحليل الدم بالطرق الكيميائية وغيرها ؟ )) ، وأجاب (( بانتنج )) في استحياء قائلاً : (( لا يا سيدي الأستاذ . . . ان كل ما لدي هو فكرة أريد ان أضعها موضع التجربة ، ولذلك أرجو أن تسمح لي بمساعد يعاونني في الكشف والوصول الى الحقيقة الكاملة )) ، ثم أخذ يشرح فكرته ، ويبديء فيها و يعيد ، وكان الأستاذ في ذلك الوقت منهمكاً في دراسة بحث آخر ، ويتأهب للسفر الى اوربا ، فأراد أن يتخلص من هذا الطبيب اللجوج وسمح له بما اراد.
وخرج (( بانتنج )) من عند استاذه ، ووجهه يطفح بشرا وقلبه عامر بالامل ، ولكنه كان في ذلك الوقت معوزا صفر اليدين ، لم يتجاوز دخل عيادته اربع ريالات في الشهر الاول ، فعول على اغلاق العيادة وبيع اثاثها للانفاق من ثمنه ، وذاع هذا الخبر بين زملائه ، فسخروا منه وتفكهوا بحاله ، ورموه بالسفه والتعلق باهداب الوهم والخيال .
وبعد ايام معدودات كان (( بانتنج )) قد هيأ لنفسه معملا في غرفة مهجورة من غرف الكلية وأقام فيها هو ومساعده وعشرة من الطلبة ، ولم يكن مساعده من العلماء الراسخين في العلم ، وانما كان طالب طب في السنة النهائية يدعى (( بست)) ، وكانت مهمة (( بانتنج )) اجراء العمليات الجراحية على الكلاب ، فيربط قناة البنكرياس في واحد منها ، ويستاصل الغدة من كلب اخر ، وزميله الطالب يقوم بالكشف عن كمية السكر في دمائها ، ولم يمض على هذا العمل بضعة اسابيع ، حتى كان (( بانتنج )) قد اثبت بالدليل القاطع صدق نظريته ، واصبح خيال الامس حقيقة اليوم ، بعد ان وضع (( بانتنج )) يده للمرة الاولى على ذلك السائل الساحر الذي يعرف الان باسم (( الأنسولين)) ، ثم اخذ ـ بعد نجاح التجربة الاولى ـ يحضّره لا من غدد الكلاب بعد ربط قنواتها ، ولكن من غدد الحيوانات الذبيحة بعد تعريضها لمواد خاصة تتلف خلايا الافراز الخارجي , وتبقي فقط على خلايا (( لانجرهانز )) .
وعاد الاستاذ (( ماكليود )) من رحلته في اوربا ، وانتهت الى مسامعه هذه الاخبار فتملكته الدهشة والعجب، ونفض يده من كل اعماله ، واسرع هو ومساعده الى اعادة التجارب التي اجراها (( بانتنج )) على الكلاب ، حتى اذا استيقن من صحتها ذهب من فوره الى الجمعية الطبية الامريكية ، ليزف الى العالم الطبي خبر ذلك العلاج الجديد الذي كشف في معمله ، ودوت قاعة المحاضرات الكبرى بالهتاف والتصفيق للاستاذ (( ماكليود)) ومساعده … اما (( بانتنج )) فكان وقتها في شغل شاغل بعلاج المرضى الذين وصل الى اسماعهم خبر الترياق الذي كشفه فلجأوا اليه وهم في اشد حالات المرض، يحملهم ذووهم فوق الاسرة والنقالات ، وكان المريض يدخل اليه مطروحا على سريره ، فلا يلبث بعد بضع حقنات من هذا الترياق ان ينهض واقفا على قدميه ، ثم يحمل سريره ويسير الى داره … لذلك لم يصل صوت الهتاف المدوي في قاعة الجمعية الطبية الامريكية الى مسامع (( بانتنج )) قاهر مرض السكري .