09 / 10 / 2007 في ذكرى40
لأستشهاد المناضل الحر , نقدم التحية لكل المناضلين و المجاهدين
و نحن على يقين بأن للباطل جولة و لكنه لن يدوم
في أحد أيام تشرين أول أكتوبر من عام سبعة وستين، ألقي بجثة مشوهة في قبر جماعي، تمنى القتلة ألا يأتي أحدا لإعادة اعتبار القبر المجهول. اعتقدوا أنهم بتحطيم الرجل سيحطمون أسطورته، ولكنهم كانوا على خطأ.
عام 1968، غضب شبان العالم وخرجوا إلى الشوارع معلنين انهم يستطيعون إنهاء الحروب وتغيير ملامح العالم. وقد تحول هذا الرجل الثائر بعد موته إلى شهيد لقضاياهم. أصبح يمثل أحلام ورغبات الملايين ممن يحملون صوره.
علما أنه كان يمثل أيضا مجموعة من التناقضات، وكأن الموت حول ملامحه، ما بوحي بأنه لو منحه أعداؤه الحق في الحياة، لربما عجزت أسطورته عن احتلال هذا المدى العالمي الذي تنعم به اليوم.
ثائر عالمي
في الأول من كانون الثاني يناير من عام 1959 انتصرت ثورة فيديل كاسترو في كوبا. انتشر الآلاف في شوارع هافانا لاستقبال أبطال الاشتراكية، الذين أطاحوا بالنظام العسكري الفاسد الذي تدعمه أمريكا.
تمكن كاسترو من صنع المستحيل، وذلك بمعونة ساعده الأيمن تشي جيفارا. فنشأت بينهما روح الأخوة التي تعمدت بالنار. تمكنت ثورة كاسترو من تحقيق النصر بالاعتماد على تكتيك حرب العصابات.
أثبت جيفارا بين الثوار في الجبال الكوبية، براعته القتالية وكفاءته القيادية في مواجهة الخطر باستعداد ألهم الجنود من حوله. أدرك كاسترو قدرة تشي على القتال، فكانت هذه الكفاءة مفتاح تحقيق النصر عام 1959.
حقق فيديل كاسترو حلمه عند انتصار الثورة. أما حلم جيفارا، فكان ما يزال في بدايته بعد.
تخطت أحلام هذا الشاب الأرجنتيني الثائر حدود جزيرة كوبا، فقد كان يحلم ببناء جنة اشتراكية عالمية، انطلاقا من أمريكا اللاتينية. أراد رفع علم المساواة في العالم أجمع.
عندما كان يدرس الطب جال في أرجاء القارة ، وتأثر جدا بما رآه من فقر بين سكانها.
كان يحلم بتحرير جميع هؤلاء الناس، وبعد ثلاثة أسابيع من انتصار فيديل، أعلن أنه يريد مغادرة كوبا، لنشر الثورة في العالم. تعامل كاسترو مع مشاريعه باحترام، ولكنه وجد أولوياته في حماية الثورة وتنميتها على أرض الوطن.
اعتمد الاقتصاد الكوبي الذي ورثه فيديل على تصدير السكر، وتحديدا إلى أمريكا. أراد كاسترو إنهاء هذه التبعية، وإعادة بناء كوبا كدولة إنسانية متقدمة.
وجد جيفارا نفسه فجأة وزيرا للاقتصاد. فاتبع سياسة غير رسمية في عمله، يمكن اختصارها بالطريقة البسيطة التي وقع فيها العملة الكوبية الجديدة. تشي. بساطته وتواضعه ووسامته، جعلت منه وزير غير اعتيادي للاقتصاد.
أثناء محاولات واشنطن اغتيال كاسترو بالسيجار الملغوم، كان السوفيت يعززون تحالفهم مع كوبا، لتنشأ علاقة ساهم بها تشي، على اعتبار أن الاتحاد السوفيتي يحمل النماذج الفكرية والاقتصادية التي يسعى لتطبيقها في كوبا.
رغم أن جيفارا المحارب والقائد والزعيم ، لم يكن اقتصاديا، إلا أن مساعيه زرعت روح العمل الجماعي التي ما زالت سائدة حتى اليوم، وما زال الاقتصاد الكوبي يواجه العوائق الصعاب الناجمة عن أكثر من أربعين عاما الحصار الأمريكي المجحف ضد كوبا.
كانت ملامح جيفارا الهادئة تتناقض مع كيانه الداخلي الثائر، فقد عرف عنه المثابرة في العمل ولكن عفته الشخصية جعلته يصلح لممارسة العمل الاقتصادي بنقاء ونظافة كفه التي قلما تتوفر اليوم في وزراء الغرب وأتباعه.
في الثامن والعشرين من تشرين أول أكتوبر من عام اثنين وستين، حبس العالم أنفاسه أثناء خوض كندي في لعبة الروليت الروسية. حين علم بأن خروتشيف قد وضع صواريخ نووية على أرض كوبا، أصدر تهديد نهائي بإعلان حرب نووية إن لم يتم انتزاع تلك الصواريخ. بعد الاتفاق مع واشنطن نزع خروتشيف الصواريخ وأعادها إلى روسيا دون التشاور مع كوبا.
غضب جيفارا لما اعتبره استخفافا من قبل خروتشيف لتخطيه سيادة كوبا وزعامتها. كما أغضب ذلك فيديل كاستروا أيضا، ولكنه نجح كسياسي في ضبط مشاعر الغضب لديه وتسخيرها لتعزيز التحالف مع السوفييت لما فيه مصلحة كوبا ومستقبل الثورة فيها.
بقي جيفارا على عهده في مقارعة الأمريكيين ومساعيهم التوسعية في أرجاء العالم مشيرا مسلطا الأضواء على جميع تحركاتهم المشبوهة في أرجاء العالم، وفي بداية الستينات ألقى في أحد المحافل الدولية خطابا حذر فيه واشنطن من مغبة الاستمرار في محاولات الهيمنة الجارية في القارة السمراء فقال:
والآن تسعى القوات الأمريكية إلى التدخل في الكونغو، ولماذا؟ للتورط في فيتنام أخرى، وكي تتعرض لهزيمة أخرى دون شك، مهما مر على ذلك من وقت، ولكن هزيمتهم حتمية.
رغم إدراك كاسترو بأهمية التركيز على تعزز إنجازات الثورة وضمان التقدم والتنمية في كوبا إلا أنه لم يتردد في احترام قرار جيفارا في تقديم الدعم للحركات الثورية المناهضة لأمريكا في العالم.
سعى جيفارا لإقامة مجموعات حرب عصابات في الكونغو، مع أن فكرته لم تلق صدى واسعا لدى بعض القادة، أصر جيفارا على موقفه، وتموه بملابس رجل أعمال ثري، لينطلق في رحلة طويلة سافر فيها من بلد إلى آخر ليواجه المصاعب تلو الأخرى. ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى الكنغو التي سعى إليها، فبقيت الثورة هناك حلما يراود أفكاره.
بعد أشهر من حروبه المتعاقبة، نشرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية شائعات تدعي فيها اختفاء إرنستو تشي غيفارا في ظروف غامضة ومقتله على يد زميله في النضال القائد الكوبي فيديل كاسترو ما اضطر الزعيم الكوبي للكشف عن الغموض الذي اكتنف اختفائه من الجزيرة للشعب الكوبي فأدلى بخطابه الشهير الذي ورد بعض أجزائه ما يلي:
لدي هنا رسالة، كتبت بخط اليد، من الرفيق، إرنيستو جيفارا يقول فيها: أشعر أني أتممت ما لدي من واجبات، تربطني بالثورة الكوبية على أرضها، لهذا أستودعك، وأستودع الرفاق، وأستودع شعبك، الذي أصبح شعبي. أتقدم رسميا باستقالتي من قيادة الحزب، ومن منصبي كوزير، وعن رتبة القائد، وعن جنسيتي الكوبية، لم يعد يربطني شيء قانوني بكوبا.
أكدت هذه الرسالة إصراره على عدم العودة إلى كوبا بصفة رسمية، بل كثائر يبحث عن ملاذ آمن بين الحين والآخر. ثم أوقف مساعيه الثورية في الكونغو وأخذ الثائر فيه يبحث عن قضية عالمية أخرى.
علق الآمال على قدرته في مساعدة الفلاحين في حروبهم الثورية من أجل المساواة، فصار حينها يبحث بشغف عن مكان يتابع منه مواجهة التوسع الأمريكي. تحولت أمريكا اللاتينية إلى هدف رئيسي لما فيها من فقر ومعاناة وشروط تضمن الظروف اللازمة لاستمرار الثورة، اختار جيفارا البلد الأكثر تعرضا للهجمة الأمريكية في القارة، فدعم كاستروا قراره بكل احترام.
وافق فيديل كاسترو على مساعي جيفارا، فقدم له الدعم اللازم، وساعده في تقديم كل ما يلزم لمتابعة مسيرته الثورية على طريقته. فانتحل جيفارا هوية رجل أعمال من الأوروغواي وتوجه إلى بوليفيا التي وجد فيها نقطة انطلاق لحرب ثورية مناهضة للتوسع الأمريكي وتساهم بنشر الاشتراكية في العالم أجمع.
ولكن المصاعب أخذت تتوالى على مشروعه الهائل، كانت الحياة صعبة، وفيها بعض الأمل، وكأن الفلاحين ترددوا في السعي لتغيير الحالة السائدة. عندما وصل جيفارا إلى هناك مع رجاله يبحثون عن مجندين، لم يجدوا إلا قلة وقفت معهم نتيجة الحملات الدموية التي أعلنتها الحكومة المؤيدة للولايات المتحدة هناك، والتي أدرك الفلاحين والهنود أنها لن توفر أحدا في دمويتها المعهودة.
كما ساهمت الدسائس الأمريكية في خلق نزاعات في أوساط اليساريين أنفسهم كثيرا ما تحدث عنها زعيم الحزب الشيوعي البوليفي ماريو مونهي في عدة مناسبات محذرا جيفارا من حالة الجزر الثورية والانقسامات التي تعانيها البلاد في تلك الفترة.
منذ بداية عام 1967، وجد جيفارا نفسه مع مقاتليه العشرين، وحيدا يواجه وحدات الجيش المدججة بالسلاح بقيادة السي أي إيه في براري بوليفيا الاستوائية. أراد جيفارا أن يمضي بعض الوقت في حشد القوى والعمل على تجنيد الفلاحين والهنود من حوله، ولكنه أجبر على خوض المعارك مبكرا.
اشتبك المقاتلون مع وحدة من الجيش البوليفي بقيادة وتوجيه السي أي إيه فقتلوا سبعة جنود وأسروا عشرون آخرون. توقعت السي أي إيه وجود أعداد كبيرة من قوات حرب العصابات، فحركت قوات الجيش نحوها حتى اكتشفت موقع المعسكر، وصادروا وثائق تثبت هوية المقاتلين، تشمل صورا شخصية خلفتها إحدى المقاتلات الثائرات وراءها.
اشتدت المطاردة لتجبر جيفارا ورفاقه على اتباع استراتيجية الكر والفرار سعيا للنجاة واستنزاف وحدات المطاردة المعادية.
ألقي القبض على اثنين من مراسلي الثوار، فاعترفوا تحت قسوة التعذيب أن جيفارا هو قائد الثوار. فبدأت حينها مطاردة لشخص واحد. بقيت السي أي على رأس جهود الجيش البوليفي طوال الحملة، فنتشر آلاف الجنود لتمشيط المناطق الوعرة بحثا عن أربعين رجلا ضعيفا وجائعا.
قسم جيفارا قواته لتسريع تقدمها، ثم أمضوا بعد ذلك أربعة أشهر متفرقين عن بعضهم في الأدغال. إلى جانب ظروف الضعف والعزلة هذه، تعرض جيفارا إلى أزمات ربو حادة، ما شكل عامل ساهم في تسهيل مهمة البحث عنه ومطاردته.
ركب المقاتلون شاحنة ودخلوا إلى بلدة ساماباتا حيث استولوا على مركز الشرطة ودخلوا أمام الأعين المندهشة لشراء دواء من الصيدلية. وربما كانوا يجهلون بأن الطريق العام كوتشامبامبا-سانتاكروس كان وما يزال شريانا حيويا في البلد. فهو يربط شرق البلاد بغربها، أي أنهم عندما استولوا على ساماباتا لبضع ساعات كادوا يشلون حركة البلد بكاملها.
وبعد مطاردات عنيفة مع وحدات الجيش البوةليفي بقيادة السي أي إيه قتلت تانيا ومقاتلي الفرقة الثانية الذين كانوا معها في مجزرة وقعت على ضفة أحد الأنهر، فبقي مع جيفارا عشرين رجلا. دفعه الجوع والعزلة إلى البحث عن ملاذ آمن لهم في إحدى الوديان السحيقة.
علمت السي أي إيه عبر وسائلها التكنولوجية المتطورة بوجود جيفارا في تلك المنطقة فأرسلت الضابط الشاب في الجيش البوليفي الملازم غاري برادو، لينشر رجاله على السفوح المطلة، ومحاصرة المقاتلين هناك.
أوشكت المعركة الحاسمة على الوقوع هناك، ولكن جيفارا أصيب مرتين، كما أصيب سلاحه وتعطل في يده. تسلق الجبال سعيا لاختراق الحصار، ليجد نفسه وجها لوجه أمام كمين للجيش الذي تمكن من إغلاق الحصار، والقبض عليه حيا ولكنه مرهق ومريض ومجرد من السلاح.
ما أدهش السكان هو أنه رغم كل هذه الظروف الصعبة التي كان فيها تم اقتياده إلى بلدة لا هيغويرا، موثوق اليدين والقدمين، ليسجن في مدرسة تحت حراسة الجنود وإشراف السي أي إيه مباشرة هناك.
ويقول الجنرال برادو الذي ألقى القبض عن تلك الواقعة في إحدى المقابلات ما يلي: عندما رآني متوترا لأن هذه كانت أول عملية قتالية أقوم بها، حاولت التأكد من كل شيء، فوضعت الحراسات الأمنية حول السجناء للتأكد من عدم حصول شيء. فقال: لا تقلق أيها الملازم، هذه هي النهاية، انتهى الأمر.
لم يعترف أي ضابط بتلقي أوامر الإعدام. ومع ذلك تؤكد وثائق السي أي إيه المفرج عنها أن الأوامر صدرت عنها مباشرة وقد أمر بتنفيذها عملائها المشاركين بالعملية فدخل أحدهم إلى الغرفة، وصوب السلاح وأطلق النار على أسير أعزل مريض ومرهق. اغتيل تشي جيفارا وهو في التاسعة والثلاثين.
نقلت الجثث المضرجة بالدماء في طائرة هليكوبتر عبر الجبال إلى بلدة فالي غراندي الجرداء بعد أن قطعت يداه انتقاما وأرسلت إلى كوبا.
مع انتشار نبأ موته، انتشرت حشود الهنود والفلاحين على الطرقات تودعه. هنا أدرك القتلة فداحة خطأهم، حين قرروا أن قتله يستحق الإعلان على الملأ. فعرضوه في غرفة غسيل تابعة لإحدى المستشفيات المحلية.
قاموا بغسله وتنظيفه كي لا يشك أحدا في هويته. لقد قتلوا جيفارا الإنسان، ولكن تفاهتهم وحماقتهم أدت إلى ولادة جيفارا الشهيد، الذي هو أقوى من الموت والعذاب، فقد قالت سوزان أوسينغا إحدى ممرضات المستشفى الذي أودع فيه بعد اغتياله عن مشاهدتها في تلك المناسبة ما يلي: كانت ملامحه شبيهة جدا بملامح السيد المسيح، لهذا ما زال الكثير من الفلاحين والهنود في بوليفيا يقيمون القداس حتى اليوم على روح جيفارا قائلين أنه يحقق المعجزات.
لو لم يقتلوه، لو لم يغسلوه، لو لم يعرضوا جثته على الملأ بعد فشله في صنع الثورة، لما ولد مسيح الوادي الذي يعرف بفالي غراندي. والذي يتحدث عنه فيديل كاسترو اليوم فيقول:
إذا أردنا أن نعرف كيف نريد أن يكون أبناؤنا، يجب أن نقول من أعماق قلوبنا كثوار، أننا نريدهم أن يكونوا مثل جيفارا.
فى الثانى عشر من كانون الاول عام 1964 كتبت صحيفة نيويورك تايمز: "وقف امس الرجل ذو اللحية، والزى العسكرى الزيتوني، خارج قاعة الجمعية العمومية للامم المتحدة، واخرج من جيبه مطواة قطع بها الجزء المشتعل من سيجار "الهافانا" الذى كان قد دخنه حتى نصفه. وبعدما وضع نصف السيجار الذى لم يدخنه فى جيبه، دخل الى قاعة الجمعية العمومية ليلقى خطابا "ملتهباً" ضد الاستعمار والامبريالية. ذلك الرجل هو تشى غيفارا. انه الثورى الكامل الذى يندر ان يكون له مثيل.. .
وربما كانت صورة غيفارا.. بخصلات شعره الطويل، ولحيته غير المشذبة والعيون الكبيرة الحزينة - واحدة من اعظم الصور الصحفية فى التاريخ، والاكثر استغلالاً تجارياً بالطبع. وبهذه الالفة الغريبة بين غيفارا ووسائل الاعلام (فى حياته ومماته)، فإنه يصبح من الصعب جداً نزع الهالة الاسطورية عن شخص، اصبح من العلامات البارزة فى النصف الثانى من القرن العشرين بعد الانتصار المذهل للثورة فى كوبا، وتحوّل - بسرعة - الى رمز لقوى الثورة فى كل العالم؛ من افريقيا الى اسيا الى امريكا اللاتينية.. وحتى بين الشباب الاوربى ايضا.
يمثل غيفارا - والى حد ما كاسترو - حالة التمرد الفردى القصوى بين قوى الثورة فى العالم، بابتعادها عن الاحزاب والحركات المنظمة او المؤطرة. كما يمثلان حالة الصراع او الكره القومى المتطرف لكل ما هو "يانكي"، ولدور الولايات المتحدة فى امريكا اللاتينية خصوصاً. ولهذين السببين تحديداً فان ساحة غيفارا - ورفاقه - هى جميع دول امريكا اللاتينية التى يهيمن عليها اليانكى تماماً، كما تغيب عنها الاحزاب والحركات الثورية المنظمة.
وبهذا المعيار فان غيفارا مناضل قومى بمعنى الكلمة. وقبل انتصار الثورة فى كوبا، لم يعرف عنه الاهتمام بالدور الامبريالى للولايات المتحدة خارج امريكا اللاتينية مثلاً، مثلما لم يعرف عنه أى علاقات مع قوى التحرر والثورة فى العالم. وفى الحقيقة ان الرجلين - غيفارا وكاسترو - يحملان قدرا كبيرا من الطاقة والاندفاع الثورى وكذلك العناد والصبر وغيرها من الخصال الفردية، التى تجعلهما يكرسان نفسيهما لمشروع تحرير أى دولة فى امريكا اللاتينية - كوبا، غواتيمالا، بوليفيا، الارجنتين - من الدكتاتورية والتبعية؛ اذ لا فارق جوهرياً - فى نظرهما- بين هذه الدول التى تجمعها اللغة الاسبانية والعقيدة الكاثوليكية والتهجين الجنسى والحضارى الواسع والعميق بين البيض والسود والاقوام الاصيلة، والذى يتجلى فى كل المظاهر الفنية والثقافية وحتى الدينية.
ان الانتصار فى كوبا على باتستا وزمرته باسلوب حرب العصابات والكفاح المسلح يفتح عيون العالم - بأجمعه - على الثوار الجدد. ويظل مغزى هذا الانتصار رمزيا اكثر منه عملياً، لكن الخطوة اللاحقة بانضمام كاسترو وغيفارا الى الحزب الشيوعى الكوبي، ربما لا تقل خطورة عن الانتصار على باتستا نفسه. وفى الحقيقة لا ندرى ماذا كان الرجلان - ورفاقهما بالطبع - ينويان بعد استلام السلطة، وخصوصا أنهما بدون قاعدة اجتماعية او فكرية عريضة. هل يؤججان الاحتراب السياسى فى كوبا لغرض إحكام قبضة السلطة الثورية الجديدة، لم يعملان على اكمال مهمتهما فى محاربة الولايات المتحدة؟.. وفى الحقيقة ان تحولهما الى شيوعيين قد دفعهما تماماً فى تيار الحرب الباردة المشتد اوارها فى بداية الستينات. وهكذا تحولت كوبا الى حليف استراتيجى للاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكي، الذى وجد له قاعدة متقدمة على ابواب الولايات المتحدة نفسها. ويجب ان ينظر الى الدور الشخصى لغيفارا - بالذات - فى اقناع القيادة السوفيتية بنشر الصواريخ والاسلحة الذرية فى هذا المكان الحساس بالذات. اذ يحمل العداء الذى يكنه غيفارا للولايات المتحدة - ولفكرة اليانكى - طابعا شخصيا، تاريخيا، وجودياً يقترب من العدمية احياناً. وربما كان نشر هذه الاسلحة - بالذات - هو الذى كلف خروشوف منصبه، وليس انفتاحه على الغرب او دعوته للتعايش السلمي. وهذا يتجلى فى الموقف اللاحق للاحزاب والحركات الشيوعية الرسمية فى اعتبار غيفارا - وليس كاسترو - خارجاً عن الطريقة والتيار العام. ونستطيع ان نشبّه الحالة، بمؤمن خارج عن جماعته الدينية - فى ممارساته وافكاره - لكن خصاله ومآثره تدفع الجميع فى النهاية الى تطويبه كقديس وشهيد. وفى هذا المجال ينتمى غيفارا الى الحركات القومية والتحررية فى العالم الثالث اكثر مما ينتمى الى الحركات الماركسية والشيوعية، خصوصا بعد انفتاح الحركات القومية فى العالم على الفكر الماركسى والاشتراكى فى الستينات.
واذ يقنع كاسترو بقيادة كوبا وبناء الاشتراكية فى هذا المكان من العالم، فان شخصية غيفارا لا تحتمل المناصب والمهام الرسمية، او المسؤوليات الروتينية. انه يبدو لاهثاً للقضاء على الامبريالية فى كل مكان، بعد ان اكتشف تعاطف الشعوب معه، من العرب الى الاسيويين الى الافارقة. فيقوم بزيارة الدول ويلتقى بالشخصيات السياسية والثورية - خارج امريكا اللاتينية - لتعبئة جبهة مضادة للولايات المتحدة مستغلا هالته الثورية المستقلة تماما عن أى سلطة او اتجاه سياسى محدد، عدا العداء للامبريالية. وتحركات وشعارات غيفارا هى التى علمتنا العداء للامبريالية حتى وان لم نكن نفهم معناها الحقيقي، فقد اصبحت الامبريالية هى المظلة الكبرى التى تجمع اعداء الشعوب وحركاتها التحررية فى العالم. واذ تفشل الحركة المسلحة فى الكونغو، واذ يكتشف صعوبة النضال المسلح فى اوساط مختلفة ثقافيا وقومياً، يعود غيفارا الى ساحته الاثيرة فى امريكا اللاتينية، الى بوليفيا، ليقود حرب عصابات لا تغفل عنها الاوليغارشيا المحلية والمخابرات المركزية الامريكية. ويقتل غيفارا فى 9 اكتوبر عام 1967. عبر منظمة تضامن شعوب افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية يقول: "لا يهمنى متى واين سأموت، لكن يهمنى ان يبقى الثوار منتصبين، يملأون الارض ضجيجاً، كى لا ينام العالم بكل ثقله فوق اجساد البائسين والفقراء والمظلومين
وسيظل صدى هذه الكلمات يتردد، ويلهم المئات فى مكان وزمان، ما دام الظلم والعنف يسود هذا العالم.