أمام مكتبه كان مسترخياً على كرسيه يضحك مع صاحبه عبر الهاتف..
احترت حقيقة في أمري وأمره..
عشرات الملفات متكدسة على مكتبي.. ومكتبه يكاد يكون خالياً إلاّ من قهوته المفضلة وصحيفته التي تنتهي صلاحيتها بانتهاء الدوام لكثرة تصفّحه لها..
هل أصارحه؟
"يا أخي..يزعجني أن يكون ضغط العمل عليّ..خذْ نصيبك منه!"
سيغضب.. سيرتعد كالمحموم! وربما تصبح العداوة بيني وبينه فظيعة لا تُطاق..
وما الذي يهمّ؟ ليس هناك ما أخشى خسارته..!!
وأنا صاحب الحق.. وإن لصاحب الحق مقالاً..
لا.. حتماً هناك طريقة أخرى لكي أبيّن له كم يتعبني سلوكه..!!
***
وفي اليوم التالي وقبل أن يأتي كعادته متأخراً..حملت الملفات كلها، ووضعتها على مكتبه.. غير أنني أبقيت ملفاً واحداً بين يدي أنهيه لكي لا يشك في أمري..
دخل وحملق متفاجئاً:
- ما هذا كله؟!
رفعت رأسي بلا مبالاة:
- ملفات!
- أوه..كل هذه الملفات..لا يمكن أبداً..لن يكفي اليوم لإنهائها..
هززت كتفي:
- كان الله في عونك.. عن نفسي لقد أنهيت ما كان عليّ قبل أن تأتي..
أنهى الأول..الثاني..الثالث..
وبينما أكتب تقريري..كنت أسترق النظر إلى ملامحه المتأفّفة..
قررت أن أنهي الموضوع تماماً..وأن أوصل رسالتي ما دمت قد شرعت في كتابتها!
أخذت الصحيفة، وطلبت كوباً من القهوة.. أخذت جوالي.. وبدأت أثرثر مع صاحب قديم لم أكلمه منذ زمن..
أنهيت المكالمة..
استلقيت على كرسيّي.. ومددت قدمي أقرأ الصحيفة، وأرتشف قهوتي رشفات لها صوت وصدى..
لم أكد أنهي الرشفة الثالثة والنصف حتى ضرب مكتبه بكلتا يديه وفي عينيه نار ونور!
اصطكت قدماي خوفاً بادئ الأمر، فلم أقلْ له شيئاً، ولم أسأله عما أصابه.. وإنما ابتلعت نصف الرشفة الرابعة.. وابتسمت له مستفهماً..
قال.. وكأنه يتحدث على لساني:
- ما أبردك يا أخي.. أنا أعمل.. وأعمل.. وأعمل..
وأنت تلهو.. وتتكلم.. تتقهوى.. وتتسلى.. وتقرأ الصحيفة..
بركان كاد يودي بي لولا أنني كظمت غيظي.. فلي هدف.. وسأصل إليه بإذن الله..
ضغطت على الجريدة حتى أحرر وجهي من غضبي، ولم أكلف نفسي النظر إليه:
- كن هادئاً يا رجل.. أليس من حقي أن أقرأ أخبار العالم؟
اهتاج وصاح وزمجر:
- أخبار العالم اقرأْها عندما تعود إلى البيت.. لن تحل أي قضية من القضايا..على الأقل وأنت الآن على رأس عملك..!!
ابتسمت له:
- بالتأكيد لن أفعل ذلك.. أنت.. وأنت أنت! كل يوم تسترخي مع كوب قهوتك وصحيفتك.. تبليها من كثرة التصفح.. تقرأ وتتقهوى وتتسلى.. ولم تحل أي قضية.. في الوقت الذي أعمل فيه.. وأعمل.. وأعمل!
اصفرّ وجهه بعد أن كان محمراً.. وكأن الدم قد توقف عن الجريان في ملامحه..
على أية حال.. تم إرسال الرسالة..
انسحب من الثورة التي افتعلها..وفتح ملفاً لينهيه..
أخذت رشفة باردة:
- يا سلاااااااااااااام كوب قهوة يا أبا الشباب؟!
رفع عينيه المحمرتين إليّ ولم يقلْ شيئاً..عاودت الابتسام، وأنا أكاد أطير فرحاً بانتصاري..
قاومت رغبتي الشديدة في أن أساعده.. يجب أن يشرب الكأس حتى آخر قطرة..!!
***
في اليوم الثالث.. عادت ملفات المراجعين لتتكدس على مكتبي..
وبدون مقدمات قفز مِن على كرسيه وأخذ نصفها.. وبدأ بمراجعتها وإنهاء ما يلزم إنهاؤه..
وفي وقتنا المستقطع.. استطعنا أن نحتسي القهوة معاً دون أن يشعر أحدنا بالامتعاض من الآخر، واستطعنا أن نلمّ بأخبار العالم معاً!
خلاصة القول: تستطيع بالفعل أن تعبر عن استيائك.. بشكل أفضل مما تعبره التعابير الشفهية التي قد تزيد الأمر سوءاً.