من أقصى شمال الكرة الأرضية، ومن أوربا البادرة وأرض الفايكنج تشرق شمس الإسلام رغم برودة الطقس التي تصل إلى حد التجمد فيزداد التواجد الإسلامي وترتفع معدلات انتشار الإسلام حتى أصبح الديانة الثانية في بلاد لم يكن له فيها أثر قبل ربع قرن من الزمان.. التقينا بالسيدة نائلة واكد مؤسسة ورئيسة جمعية "المرأة المسلمة" بالسويد، والتي كانت أول جمعية إسلامية في الدور الإسكندنافية، فحدثتنا عن رمضان في إسكندنافيا، كيف يستقبله المسلمون، وكيف يحيون لياليه، والصعوبات التي يواجهونها في مجتمع يتعامل معهم كأقلية، وتأثير رمضان على مشاعرهم تجاه الأمة الإسلامية وقضاياها، وعن وضع الإسلام في هذه البلاد ومستقبله... وكان هذا الحوار:
كيف يستقبل المسلمون في الدول الإسكندنافية - وهم أقلية - شهر رمضان؟ وهل يختلف هذا الشهر الكريم كثيرًا فيها عن بقية أنحاء أوربا؟ هناك فارق كبير بالتأكيد بين الدول الإسكندنافية وبقية أنحاء أوربا فيما يتعلق بشهر رمضان وكل ما يتصل بالإسلام، إذ إن الوجود الإسلامي في هذه الدول حديث جدًّا إذا ما قورن ببقية الدول الأوربية، كما أنه ضعيف نسبيًّا أيضًا؛ لذلك فإن أول ما نلاحظه أن الحال في هذه الدول لا يتغير كثيرًا في رمضان عنه في بقية شهور السنة؛ نظرًا لقلة عدد المسلمين بها، بينما على النقيض من ذلك فإن رمضان يغير حياة المسلمين فيها تمامًا حتى قبل حلوله، إذ نبدأ قبله بأيام في تتبع أخباره، ونستعد لاستطلاع هلال الشهر الذي يصبح محور اهتمامنا الأول، ودائمًا ما يظهر تيار الجدل المعتاد حول ثبوت الهلال وبداية الصوم، نظرًا لاختلاف التجمعات الإسلامية حول اتباع الرؤية أم الفلك، واختلاف الدول التي يتبعونها في بداية الشهور العربية وفي توقيت الإمساك والإفطار أحيانًا، مما يحدث اضطرابًا يستمر حتى ثبوت الهلال خاصة في ظل عدم وجود مؤسسة إسلامية يمكنها توحيد الرؤية بين المسلمين… وحتى المراكز الإسلامية الموجودة - وأشهرها المركز الإعلامي الإسلامي - ليس لديها القدرة على إبلاغ كل مسلمي البلد بثبوت الهلال خاصة في ظل تجاهل وسائل الإعلام السويدية لمثل هذه الأمور إلى وقت قريب.. وغالبًا ما يحسم هذا الخلاف بين المسلمين باتباع مكة المكرمة "أم القرى" في أهلة الشهور العربية وقد بدأ يستقر ذلك.. وبمجرد إعلان الرؤية يتجه المسلمون من أنحاء البلاد إلى أقرب المساجد إليهم، وهي بالمعنى الدقيق "مصليات" يستأجرها المسلمون لأداء الصلوات والشعائر المختلفة وتفتح أبوابها في رمضان طيلة اليوم حيث تحيا أول ليلة بصلاة التراويح وحلقات الذكر وقراءة القرآن ويتبادل المسلمون التهاني والتعارف.
وكيف تعيشون هذا الشهر الكريم؟ - بالنسبة للعمل والدراسة وبقية تفاصيل الحياة اليومية لا تتغير كثيرًا خاصة وأن المجتمع السويدي لم يصل بعد إلى درجة مراعاة مثل هذا الشهر وغيره من المناسبات والشعائر الدينية الخاصة بالمسلمين كالصلوات بما فيها صلاة الجمعة..، وربما بسبب ضعف التأثير الإسلامي، وعدم وصوله إلى دائرة صنع القرار هناك.
لكن هذا لا يمنعنا من الاحتفال بشهر رمضان والاحتفاء به كما ينبغي، إذ تفتح المراكز الإسلامية أبوابها لصلاة التراويح والقيام، كما تعقد بها المحاضرات والدروس الدينية المختلفة، ويحاضر فيها علماء ودعاة من مسلمي البلد أو من خارجها إذ ترسل إلينا الهيئات الإسلامية من العالم الإسلامي (وخاصة الأزهر الشريف بمصر) وفودًا علمية وقوافل دعوة في هذا الشهر، حيث أصبح تقليدًا متبعًا أن يزورنا وفد من الدعاة والمقرئين، وينزل دائمًا على المركز الإسلامي بإستكهولم ثم تستضيفه الجاليات الإسلامية في المدن الأخرى؛ لإحياء ليالي رمضان بقراءة القرآ
والندوات والمحاضرات الدينية.. كما تنظم المؤسسات الإسلامية إفطارات وسحورات جماعية يحضرها الرجال والنساء أيضًا.. أما داخل البيوت فتأخذ الاحتفالات برمضان طابعًا يتفق مع العادات والتقاليد الموروثة والمنقولة غالبًا من البلاد الأصلية التي جاء منها المسلمون خاصة وأن معظم مسلمي هذه البلاد وافدون للعمل أو الدراسة وليسوا من أهلها، وهذا يرجع إلى حداثة الإسلام في هذه البلاد (ربما لا يتجاوز العشرين عامًا بكثير) مما يؤدي إلى تفتت المسلمين وتوزعهم على جاليات مختلفة بحسب البلدان التي أتت منها، وأكبر الجاليات هي الجالية التركية، وتليها الإيرانية ثم الجاليات العربية وأكثرهم من العراقيين.
لكن ما أبرز العقبات والصعوبات التي يواجهها المسلمون في هذه البلاد وخاصة في رمضان؟ - أهمها الانقسام والتشرذم حيث تتغلب عوامل الانتماء العرقي والمذهبي أحيانًا، وتؤدي إلى الفرقة، يظهر ذلك بوضوح في الاختلاف حول رؤية الهلال، وفي صلاة العيد حيث تصر كثير من الجاليات على اتباع تقويم البلد الذي جاءت منه مما يؤدي إلى اختلاف المسلمين، حيث يصوم بعضهم ويفطر آخرون، وتقام صلاة العيد في بعض التجمعات بينما تستمر تجمعات أخرى في صيامها يومًا آخر! لكن والحمد لله الوضع بدأ يتحسن كثيرًا في السنوات الأخيرة وبدأ الجميع يتجه إلى التوحد ونبذ الخلافات والتكامل فيما بينهم خاصة بعد أن استقرت الأجيال الأولى التي وفدت إلى البلاد، وانقطعت أو ضعفت صلتها ببلادها الأصلية ، وبعد أن زاد عدد المسلمين من أبناء الدول الإسكندنافية نفسها.. وربما أيضًا بسبب زيادة الوعي والعلم بالدين، هناك أيضًا بعض الصعوبات الناتجة عن جغرافية هذه الدول التي تقع في أقصى شمال الكرة الأرضية فعندما يأتي رمضان في فصل الصيف يطول النهار جدًّا حتى يصل إلى أكثر من عشرين ساعة كاملة؛ مما يتسبب في مشقة بالغة قد لا يحتملها الكثيرون، ومنذ أكثر من خمسة عشر عامًا كنا نفطر في الساعة الحادية عشرة مساء، ثم نمسك بعدها بساعتين أو ثلاث على الأكثر، وكانت هذه مشكلة كبرى استشرنا فيها علماء كثيرين من أنحاء العالم الإسلامي حتى أفتى لنا فضيلة الشيخ سيد درش - رحمه الله - (مفتي المركز الإسلامي بلندن) باتباع أقرب دولة إسلامية لنا على خط الطول في الإفطار والإمساك (وكانت ليبيا)، وأحدث ذلك اختلافًا واسعًا ومشقة نفسية علينا أيضًا، خاصة وأنه كان من الصعب علينا أن نفطر والشمس ما زالت ساطعة لم تغب.. واستمر الخلاف حتى اتفقنا على اتباع مكة المكرمة.. وقد حل هذه المشكلة - مؤقتًا - أن رمضان الآن في شهر الشتاء!.
وما أكثر النعم والفضائل التي يشعر بها المسلمون في الدول الإسكندنافية مع قدوم شهر رمضان؟ - مثل كل المسلمين نشعر بالسمو الإيماني وتزيد صلتنا بالله في هذا الشهر الكريم أكثر من غيره.. لكن الذي قد نختلف به عن غيرنا من المسلمين - خاصة من أبناء العالم الإسلامي - أن رمضان يشعرنا بأننا جزء لا ينفصل عن الأمة الإسلامية وهذا يزيد من إحساسنا بالمسلمين في كل أنحاء العالم، وتتحقق فيه معاني وحدة الأمة بصورة واضحة، فرغم أننا في بلاد بعيدة جدًّا عن العالم الإسلامي وتفصلنا عنه مسافات شاسعة إلا أن رمضان يقرب بيننا كثيرًا حتى كأننا في مكان واحد، فنتتبع أخبار المسلمين ونشاركهم فرحتهم وآلامهم، ربما لأننا نصوم معًا ونفطر معًا.. وقد ظهر ذلك في التعاطف الكبير الذي أبداه المسلمون في السويد مع قضايا الأمة الإسلامية مثل قضية البوسنة والهرسك وكوسوفا وكشمير والشيشان الآن وقبلها أفغانستان، فقد أقمنا فاعليات إسلامية كثيرة للتعاطف مع قضايا هذه الشعوب الإسلامية، ونظمنا معارض ومؤتمرات وأسواق خيرية لجمع التبرعات ودعم هذه القضايا، وهناك مسلمات سويديات سافرن للبوسنة وكوسوفا مع لجان الإغاثة؛ لدعم المسلمين هناك، وقدمن عونًا ماديًّا ومعنويًّا للمسلمات في هذه الدول، رغم أن هؤلاء النساء لم يكن يعرفن قبل ذلك شيئًا عن هذه البلاد أو أهلها، ولكن روح الأخوة الإسلامية والجسد الواحد هي التي دفعتهن للتعاطف مع المسلمين ونصرة قضاياهم.. "ورمضان" في ذلك صاحب فضل كبير، وخاصة مع قدوم الوفود الإسلامية إلينا في المؤتمرات والندوات الدينية حيث يزيد تواصلنا مع العالم الإسلامي، وترتفع معنوياتنا كثيرًا وقد لاحظت في الفترة الأخيرة أن القنوات الفضائية العربية والإسلامية - رغم ما قد يؤخذ عليها - تؤثر إيجابيًّا في تواصلنا مع العالم الإسلامي، وتزيد من إحساسنا بأننا جزء من الأمة الإسلامية، خاصة في رمضان وبالذات البرامج التي تعالج موضوعات أو قضايا إسلامية.
هل اختلف رمضان في السويد كثيرًا هذه السنوات عما قبل؟ - بالتأكيد، فالتواجد الإسلامي تزايد وأصبح أكثر استقرارًا عن ذي قبل - كما زاد الدور الإسلامي في المجتمع كثيرًا حتى صارت هناك "ظاهرة إسلامية" تجذب الأنظار، ولم يعد المسلمون على الهامش كما كان الحال قبل عشرين عامًا مثلاً… لذلك بدأت أجهزة الإعلام السويدية في الاهتمام بالقضايا الإسلامية، وصارت تعنى بأخبار المسلمين وقضاياهم أكثر من ذي قبل، خاصة بعد أن تزايد معدل انتشار الإسلام بين السويديين ومعدل هجرة المسلمين إليها، كما بدأت المؤسسات الحكومية تستجيب لطلبات المسلمين وترعى أوضاعهم وخصوصياتهم، فانتشرت المطاعم التي تقدم الأطعمة (الحلال) أو النباتية على الأقل مراعاة لنا، وفي التعليم أيضًا بدأت المؤسسات التعليمية تراعي الخصوصيات الإسلامية فسمحت بتدريس بعض المواد الإسلامية بما لا يتعارض مع مقررات المناهج السويدية، واستثنت المسلمين من تعلم بعض المواد الجنسية التي تدرس في مقررات المدارس أو أعادت تكييفها بما يتناسب معنا، ونفس الشيء بالنسبة للرياضات المكشوفة والاختلاط.. كما سمح لنا بإنشاء حضانات إسلامية للأطفال، وهناك عدد من المشروعات التي تقدمنا بها لإنشاء مساجد ومراكز إسلامية وبدأت الحكومة تتجاوب معها، بعد أن كانت مثل هذه المشروعات مرفوضة تمامًا من حيث المبدأ.
هل يمكن أن نعرف عدد المسلمين في هذه البلاد ولو على وجه التقريب؟ - ليس هناك من يستطيع الجزم بذلك.. لكن في السويد مثلاً التقدير الرسمي للمسلمين يقدر بنحو 60 ألفًا من بين ثماني ملايين نسمة هم تعداد الشعب السويدي، بينما ترتفع التقديرات غير الرسمية بهذا العدد إلى الضعف (120 ألف مسلم) لكن هذا كله تقديرات تقريبية، وليس هناك إحصاءات حقيقية علمية عن المسلمين في السويد خاصة من السويديين أنفسهم، إذ أن كثيرًا منهم قد لا يعلن إسلامه بسبب وظيفته أو لأسباب اجتماعية أخرى تحول دون ذلك، كما أن الأوراق الرسمية تخلو من أي بيانات عن الديانة غالبًا، ومن ثم لا توجد إحصاءات موثوق بها في هذا الشأن، إلا أن كل المؤشرات تؤكد تزايد عدد المسلمين في الفترة الأخيرة، بحيث صار الإسلام يحتل المرتبة الثانية بعد المسيحية هناك، كما يتنبأ كثير من المراقبين بزيادة الوجود، ومن ثم التأثير الإسلامي في المجتمع السويدي في السنوات القليلة القادمة.
وما أكثر الفئات إقبالاً على الإسلام بين السويديين؟ - الإسلام ينتشر أكثر بين الفتيات والنساء، خاصة من الأكاديميات والجامعيات؛ ربما لأن المرأة عاطفية بالإضافة إلى أن الوضع المتردي للمرأة الأوربية يجعلها أكثر تقديرًا للإسلام وإقبالاً عليه، خاصة وأنه أعطى للمرأة وضعًا متميزًا في المجتمع فاق كل الديانات الأخرى، والطريف أن النشاط الإسلامي أيضًا في السويد تلعب فيه المرأة الدور الفاعل والأكبر منذ بداياته، فقد استطعنا (أنا ومسلمة من أيسلندا وأخرى باكستانية) تأسيس أول جمعية للمرأة المسلمة في السويد وإسكندنافيا كلها سنة 1984 في فترة مبكرة من التواجد الإسلامي، لم يكن فيها أي نشاط إسلامي مؤسسي، واستطعنا تسجيلها وفق القوانين السويدية، ومارسنا من خلالها النشاط الدعوي والاجتماعي في جميع أنحاء إسكندنافيا، من تنظيم الندوات والمحاضرات والدروس الدينية، وعقد المؤتمرات الإسلامية وإقامة الأسواق والمعارض الخيرية، وإنشاء الحضانات ودور التربية للأطفال، ودعم القضايا الإسلامية.. وكل الأنشطة الإسلامية حتى صارت جمعيتنا من أهم الجمعيات الإسلامية في إسكندنافيا بل وأوربا أيضًا، وزادت فروعها عن مائة وعشرين فرعًا في أنحاء البلاد يشارك في نشاطاتها آلاف النساء.. وكانت سببًا في دخول كثير من الأوربيات الإسلام وبعضهن صرن من الداعيات إليه.
كما كنا أسرع من الرجال في تجاوز الانتماءات المذهبية والعرقية، والانفتاح على كل الجنسيات المسلمة، فنحن نحرص على إقامة إفطارات للنساء المسلمات من كل المذاهب والجنسيات دون تمييز، كما نجتمع دائمًا على صلاة التراويح في إحدى المصليات أو في منزل واحدة منّا، وكثيرًا ما نخرج سويًّا في رحلات خلوية، وهو ما قرّب بدوره بين الجاليات الإسلامية، وأزال الحواجز التي كانت تحول بينها، وقد نجحنا بفضل الله في إصدار مجلة شهرية اسمها (سلام) بالجهود الذاتية، وهي مجلة إسلامية شاملة تعنى بتقديم كل ما يتصل بالإسلام من فتاوى وأخبار وقضايا، وتقدم التراجم والإجابات الخاصة بالقضايا الإسلامية، وهي موجهة للمسلمين وغير المسلمين أيضًا، وتوزع في المكتبات العامة المنتشرة في كل أنحاء البلاد.
وماذا عن المؤسسات الإسلامية الأخرى؟ وهل يتناسب دورها مع وضع المسلمين هناك؟ - هناك مؤسسات أخرى بالطبع، وأهمها المركز الإسلامي في إستوكهولم والمركز الإعلامي الإسلامي.. وهي مؤسسات تعنى في الأساس بالتعريف بالإسلام في وسائل الإعلام المختلفة والتعامل مع السلطات الحكومية في كل ما يخص الإسلام.. وتتولى عقد المؤتمرات والندوات الإسلامية وتتدخل لحل ما قد يواجه المسلمين من مشكلات هناك