ويظهر النموذجان تأكيداً لما تضمنه البحث من أن الحصار هو وسيلة من جملة وسائل حوار الارادات المتصارعة، من أجل فرض أو تحقيق أهداف عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية ذات روابط ثابتة بالمنازعات والصراعات السلمية والمسلحة ويبدو أن كل أعمال الحصار ترتكز على مجموعة من مبادئ ومكونات الحرب، منها:
أولاً - عزل الهدف عن كل اتصال خارجي: ففي فتح دمشق والقسطنطينية كما في لينينغراد- كان عزل المدينة هو أول عمل قامت به قوات الهجوم، فحرمان المقاومة (الدفاعية) من موارد الحياة ومن الاتصال بالعالم الخارجي، ومن إمكانات الدعم والمساعدة، سيرغم الحاميات المدافعة عن المدن إلى ضعف المقاومة واحياناً الى الاستسلام. ويظهر يالتالي أن تأثير العزل هو وفي الأزمنة الحديثة- أن الحصار الذي فرض على العراق- وعزله بكل جهد مستطاع عن الدعم الخارجي. هو الذي قرر نتيجة الحرب- من قبل أن تبدأ هذه الحرب (سواء سنة 1991 أو سنة 2003).
ثانياً: الاستطلاع، والحصول على المعلومات الضرورية بشكل منظم ومستمر:
ولعل أفضل تعبير عن هذه الحقيقة هو ما جاء في وصف المجاهدين في سبيل الله لقائدهم (خالد بن الوليد) من أنه (كان لا ينام ولا تنيم، ولا يخفى عليه من أمور أعدائه شيء، عيونه ذاكية، وهو معني بما يليه).
وتبرز قصص الحصار التي جرى عرضها، أن كل أعمال الحصار تتوقف على الكفاءة في تنظيم المعلومات ومعرفة العدو وطبيعة مسرح العمليات، واختيار الوسائل المناسبة على ضوء المعلومات المتوافرة. وحتى في قصة (حصان طروادة)، هل كان باستطاعة الاثيينيين وحلفائهم اختيار هذه الوسيلة واستخدامها بمهارة لو لم يتوافر لهم متعاونون وأدلاء وذوو معرفة وخبرة، تشكلت عبر عشر سنوات من الحصار؟ ثم هل كان باستطاعة السلطان محمد الفاتح تحقيق إنجازه العظيم لولا المعرفة التراكمية في صراع المسلمين مع الفرنج (مع البيزنطيين بخاصة) علاوة على استطلاعه الشخصي ومعرفته الذاتية بتطورات الموقف؟
ثالثاً- إحباط إرادة القتال لدى العدو:
أي ما هو معروف اليوم باسم (الحرب النفسية ووسائلها الإعلامية)، فالمعروف أن القوات الهجومية التي تفرض الحصار تمتلك حالة نفسية تختلف تماماً عن حالة من يتم احتجازهم داخل دائرة الحصار، وفي وضع دفاعي. ولكن رغم ذلك فإنه لابد من تشديد الضغوط النفسية على من يتم فرض الحصار عليهم لحرمانهم من حرية العمل، ومن القدرة على المقاومة... ولا ريب أن الحاميات التي دافعت عن دمشق وعن القسطنطينية وعن ستالينغراد... كانت تمتلك كفاءة قتالية عالية وإرادة صلبة للمقاومة. ولكن حامية دمشق وحامية القسطنطينية، فقدتا حرية العمل، فيما احتفظت لينينغراد بالقدرة على متابعة حوار الإرادات المتصارعة بفضل اتصالها البحري وتوافر الدعم الخارجي لها، ويظهر أن إحباط إرادة القتال لدى العدو، سيبقى مرتبطاً بمجموعة الظروف المحيطة بالمعركة، وبالحرب بمجموعها، فحصار القسطنطينية لم يكن معزولاً عن مجموعة الصراعات والحروب التي صهرت (الدولة العثمانية) منذ نشأتها الاولى.
رابعاً- في هدف الحرب وغاية السلم وتوازنهما:
وهو ما ظهر واضحاً في فتح دمشق وفتح القسطنطينية، عندما أظهر المسلمون حرصهم على بناء علاقات جديدة مع السكان قائمة على الحق والعدل والاستجابة لتطلعات أهل البلاد، وذلك فور انتهاء أعمال الفتح، وفي لينينغراد، وكما في قصة حرب ألمانيا، وروسيا في الحرب العالمية الثانية، هناك ما يشبه الاجماع بين الباحثين والكتاب والمؤرخين بأن أخطاء هتلر وقيادته النازية (العنصرية) هي التي شكلت المقاومة الضارية في لينينغراد كما في موسكو وستالينغراد وسواهما، ولو أن (الغستابو الالماني) حمل معه الى روسيا شيئاً غير (الارهاب والابادة) لوجد أن الشعوب السوفيتية التي استقبلت جحافل الالمان في بداية الاجتياج بالورود والخبز، باعتبارهم محررين لهم من ربقة النظام الشيوعي الذي كان يعيش في (عهد ستالين) أسوأ أيامه، لوجدوا أن تلك الشعوب ستستمر في تقديم دعمها لهم، وربما كان من شأن ذلك تغيير مجرى الحرب.
***فهد***
موضوع: من مبادئ الحصار 
السبت أغسطس 18, 2007 2:01 am
