رودي هوود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ابو سيد - يوسف ادريس - الحلقة الاولى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
masriaana
المدير العام
المدير العام
masriaana


عدد الرسائل : 1350
العمر : 43
تاريخ التسجيل : 04/08/2007

ابو سيد - يوسف ادريس - الحلقة الاولى Empty
مُساهمةموضوع: ابو سيد - يوسف ادريس - الحلقة الاولى   ابو سيد - يوسف ادريس - الحلقة الاولى I_icon_minitimeالأحد أغسطس 12, 2007 10:13 pm

أبو سيد

* يوسف إدريس
الدنيا كلها سكون، والصوت الوحيد الذي يتسرب إلى الحجرة كان ينبعث من ((وابور الجاز)) وهو يونّ في ضعف مستمر واهن وكأنه نواح طفل عنيد مسلول، ولا يقطع الونّ الشاحب البعيد إلا زحف ((الكوز)) على أرض الحمام، ثم صوته وهو يبتلع الماء ويصبه بعد ذلك في ضوضاء مكتومة ..
واستمر الوابور يونّ، والكوز يزحف ويبتلع وينصب ماؤه، وصفيحة الماء تقرقع، استمرت الأصوات كلها تتضارب وتحلق كالوطاويط في سماء الحجرة، حتى جاد الوابور بآخر أنفاسه، وانطفأ، وعاد المكان إلى سكون الدنيا الثقيل.
ومضى وقت طويل قبل أن يفتح باب الحمام، ويسمع رمضان نقيق ((القبقاب)) على البلاط وهو يقترب، ويعلو وهو يقترب، حتى دلفت امرأته إلى الحجرة، وأحس بنَفَسِها الذي ليس غريباً عليه يملأ الجو.
وظل ((القبقاب)) رائحاً غادياً، وضوء المصباح ينتقل من مكان إلى مكان، وهمهمة حزينة خافتة تنحدر وتعلو من فم امرأته مع اقتراب الضوء وابتعاده .. ظل هذا يدور ورمضان مغلق عينيه، ومصرّ على إغلاقهما، ولم ينتفض ويفتحهما إلا على قطرات من الماء البارد تلسع وجهه.
وجمده قليلاً مشهد امرأته وقد وقفت منكوشة الرأس، والمشط الخشبي في يدها، تدكه بين غزارة شعرها الأكرت، ثم تشده بكل ما تستطيع ليحرث طريقه بين الجذور والسيقان، وقد زمت وجهها السمين الخمري اللامع، وارتسمت دقائق التجاعيد حول أنفها السهل الفاطس، وبان النور من عينيها اللتين ضيقتهما في فروغ بال، بينما رذاذ الماء تدفعه جذبة المشط فيتساقط هنا وهناك، وعلى ثوبها الشيت النظيف ذي الورود الكبيرة الباهتة.
وانتهى جمود رمضان، ثم عاد إلى نومته وقال في شيء من التحدي وهو يغلق عينيه:
ـ مش تحاسبي يا وليه .. قزازة المبة حطق من الميه ..
وردت المرأة بكلام مضغوم لم يفسره، ولم يهتم به، فقد عاد يتنفس بعمق، ويكنّ رجله ثم يفرها، ويشخر بمطلق إرادته، ثم قرر أن ينام.
وحين كان يجذب اللحاف فوق أكتافه، وارب عينيه، وألقى نظرة أخيرة على زوجته التي كانت يدها تمتد إلى المصباح تمسيه، وشعرها قد تم نظامه، وازدادت لمعته، ووجهها قد أبيض حتى كادت تختفي تجاعيده في تلك الابتسامة الكبيرة الرائعة التي احتلت وسطه ..
وارتعش رمضان، وأسرع يصفق عينيه في عنف، فقد كان يعرف من زمان سرّ هذه الابتسامة .. فاليوم يوم الخميس .. والليلة ليلة الجمعة ..
وأحس الرجل بالسرير ذي الأعمدة الرفيعة يهتز، ويزيق، ثم بامرأته تستوي على السرير، وتدخل تحت الغطاء، وعبقت في الدنيا التي يصنع اللحاف سماءها رائحة المرأة مختلطة برائحة ثوبها الشيت، ورائحة الصابون الرخيص الذي دعكت به جسدها.
وكحّ رمضان وكان لا يريد أن يكح؟ وطال سعاله وقالت امرأته ووجهها إلى الناحية الأخرى في صوت حنون ذليل:
ـ مالك ياسي رمضان ...
ثم سكتت قليلاً قبل أن تقول في همس خافت مليء بالإثم:
ـ أوعى سيد يكون صاحي ..
ولما لم يرد، تنهدت في حرقة تصاعدت من كبدة قلبها، واهتزت أعمدة السرير وهي تستدير لتكمل آهتها، حتى أصبح وجهها يتدفأ بكثير من الحرارة والخشونة المنبعثة من رمضان.
وكان الرجل ساعتها يلهق، ولفح أنفاسه يحملها بعيداً .. إلى حيث لا يراهما أحد، ثم يلوكها في نشوة ويدغدغ ضلوعها في حنان، ومدت يدها وملّست على جبهته اللزجة بالعرق، ثم أرسلت أصابعها تتحسس رقبته الغليظة النافرة العروق، وقالت في صوت خنقته وأطالت فيه حتى غدا كمواء قطة جائعة:
ـ اسم الله عليك يا خويا .. اسم النبي حارسك يا ضنايا.
وكحّ رمضان، وكان لا يريد أن يكح، وزام من خلال فمه المطبق، ثم اهتز السرير وهو يستدير ليعطيها ظهره ..
وما كانت هذه أول ليلة يستدير فيها، ولا كانت هذه أول مرة يكح فيها ويزوم ويعبس. وهو لا يذكر كم شهراً مضت، وهل بدأت المسألة عقب أيام العيد الصغير أم قبله، وهناك ضباب كثيف بيه وبين البداية، فما فكر في الأمر أبداً ولا اعتبر ما حدث ـ يوم حدث ـ بداية لأية نهاية .. تماماً كما لم يتبين جاره سي أحمد الكمساري في شركة الأوتوبيس أن السخونة التي أصابت ابنته يمكن أن تكون لابداية لنهاية يعزيه فيها الناس على البنت.
والناس على هذه الحال، وكذلك ورد ما أصابه في تلك الليلة إلى نوبة البرد التي ألمت به، ومرت أيام. وراح البرد من جسده، وحين استيقظ ذات صباح، ووجد العافية قد ردت إليه، قرر أن يفعلها في نفس المساء.
وانشرح خاطره لقراره ومضى إلى الميدان يردد في انتعاش مطلع الموال الوحيد الذي يعرفه. وتسلم صرة الميدان كما تركها، ووقفت العربات لإشارته كما اعتادت أن تقف، ويده قوية في قفازها الأبيض القديم كما كانت طول عمرها، وبدلته بزرائرها الصفراء اللمعة محبوكة عليه، تبرز أكتافه، وتضيق فوق كرشه فتكوره وتجعله كالبطيخة أمامه، وقبعته يلمع فوقها الدهان الذي لا يفلح في إخفاء كل ما فيها من قذارة وبلى، وقلمه الثابت الثقيل في يده يلتقط نمرة العربة في سرعة الواثق من يومه وأمسه وغده يدونها يخطه الواضح الذي كان يفخر بجماله .. كانت الدنيا هي الدنيا .. الدنيا التي هنا والتي هو ملكها، كانت لا تزال بخير، ولا يزال يتربع على عرشها، ويحكمها بصفارته، ويعز مَن يشاء، ويذل مَن شاء فقط متى لوح بقفازه ..
وحين كان يكتب أول مخالفة كان عقله سارحاً في الليلة التي سينفض فيها عن نفسه خمول المرض الذي لازمه أسبوعاً، ولكن أمور اليوم شغلته، وعيونه الزائغة هنا وهناك تنقر المخالف من تحت حافة القبعة، هذه العيون ألهته عن الخاطر، ولم يتنبه له إلا هناك .. حين كان يجاهد في خلع حذائه الميري الثقيل وقد ألقى بجسده المنهوك على ((الكنبة)) وامرأته تلقي إليه بتحيتها الوادعة، ثم تتربع على الأرض وتقول في حماس أطفأت العادة جدته:
ـ عنك أنت.
وطوقت يدها اللينة قليلاً سمانة رجله بينما مقدمة حذائه أصبحت مدفونة بين أثدائها، وحينئذ نقر الخاطر فوق رأسه.
ولم يعتبر ما جاء في باله عملاً صبيانياً، فراح يزغزغ المرأة بحذائه الثقيل العريض، وهي تضحك، وتنهره، وتدفعه، وتميل إلى الوراء، ثم على جانبها حتى تكاد تلمس الأرض، وتشدد من قبضتها على عضلات رجله، وترخي القبضة في بطء، وهو قد استمرأ اللعبة، وانتشى وهو يعب من صوت امرأته التي كانت تمطه، وترفعه، ثم تحيله همسا، ونصفها يضحك، ونصفها يتدلل، وكلها تريد وترغب ..
في ضباب البداية يذكر رمضان هذه الليلة ولا ينساها، فقد حاول في كل دقيقة منها وسالت عليه بحور العرق، وقد أصم شعوره عن العالم، وأصبح هو وامرأته والفراش كل دنياه وتفكيره.
وأزاحته المرأة مرات ومرات، ولعن أباها آلاف المرات، والمعركة تدور وتدور لا تهبط إلا حين يتململ الصبي حتى يكاد يستيقظ، وتبدأ حين يعود إلى غطيطه ويعود اللعاب يسيل من جانب فمه ..
وهجعت المحاولات قرب الفجر، ونامت المرأة، ولم ينم رمضان.
وليلتها مضت، وليلة أخرى جاءت، وصراع جديد نشب، وثقة رمضان في نفسه ورجولته تستميت وهي تدافع عن نفسها، والواقع وما يحدث يسلب هذه الثقة كل ما تملك.
وأخيراً سلم رمضان بعد ليال، وقال لنفسه في صباح يوم بصوت لا يدري أكان مسموعاً أم غير مسموع:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .. واللا ضعت يا رمضان واللي كان كان ..
ولم تكن أول مرة يتحاشى فيها امرأته وهي تقدم له الفطار، وإنما كان يود أن يزيحها في هذا اليوم من أمامه، ثم يسرح ويخبط رأسه في الحائط عله ينفلق. كان شيء غريب يدور فيه، فبالقوة والعافية والعرق والليالي الطويلة كان عليه أن يصدق أنه لم يعد رجلاً. وكان هو يأبى أن يصدق، ويكابر هذه الحقيقة وهو مكسوف خجل كما لو كانوا يزفونه في البلد فوق الحمارة وهو عاري الجسد وعلى رأسه كومة طين.
ويعود من جديد يقول وكأنه يتلو آية الكرسي ليطرد جنية من الجان:
ـ واللا ضعت يا رمضان، واللي كان كان.
ويصمت ثم يقطع لقمة كبيرة من الرغيف ولا يأكلها .. ويقوم، وينظر من النافذة ثم يكح ويبصق بصقة كبيرة على العشش التي فوق السطوح أمامه ويعود إلى جلسته أمام الطبلية ويسرح في صمت طويل آخر وهو يحدق في الطعام ويمضغ صمته حتى يشبع فيرتدي البدلة وكأنه يخلع ملابسه ثم يتسلل من البيت كحرامي النحاس، وجسده هارب منه، وأطرافه لا يعثر عليها ..
وحين يقف وسط الميدان، والعربات تزدحم حوله، والأرض والسماء تتحرك، وهو وحده الواقف الهامد الضائع .. حينئذ يشعر بتفاهة هذه المملكة التي له، ويضايقه القفاز الأبيض، ويحس بالقبعة وكأنها حجر الطاحونة يكتم أنفاسه .. ويومها لا يقيد محضراً واحداً، وماله هو والمحاضر والمخالفات، فليدع مَن يخطئ يخطئ، ومَن يتحطم يتحطم، ومَن يقتل يقتل .. وهل هو الذي ينظم الكون .. لعن الله العربات وأصحاب العربات، والمرور وكل ما يمت إلى خلية النحل التي يلسعه ودويها وصرخاتها.
ولأول مرة في حياته كره بيته، ووجه امرأته النحس، ولم يعد تواقاً إليهما ..
وفي خطوات لا يهمه وقعها، ولا أين تقع راح يدق الشارع بحذائه الثقيل، وقد كفأ القبعة فوق جبهته، وامتلأت أخاديد وجهه بالاشمئزاز واليأس، وفك حزامه العريض، وتمنى أن ترحمه عربة نقل وتأكله. ووصل أخيراً إلى باب الإنسان الذي لا يصادق في المدينة إنساناً سواه. وطرق الباب ـ ونادراً ما كان يطرقه ـ ولم يفاجأ طنطاوي، وإنما رحب به وسأله عن الصحة وكالمعتاد عن البلد والقرايب والنسايب والذي مات والذي عاش ومَن تزوج. ولكنه فوجئ فعلاً حين قطع رمضان أسئلته وقال في جد:
ـ اسمع يا واد يا طنطاوي .. عايزين تعميره ..
ولم يكن رمضان يشرب الحشيش كثيراً، ولكنه شرب هذه المرة حتى إن طنطاوي لم يأتمن الطريق عليه فأصر على مرافقته. ولم يرفض رمضان، ولم يقبل، ولم يرد على أسئلة صاحبه عن السر زعازيع القصب، وترنح على دفة الطار في الزار، واستيقظ مع الفجر مرات ليرمي العمل في البحر، وسوت له امرأته الفطير مختلطاً بدمائها، وتجرع من العطار كل ما عند العطار ..

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://roodyhood.ahlamontada.com/
 
ابو سيد - يوسف ادريس - الحلقة الاولى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رودي هوود :: قسم القصص والروايات-
انتقل الى: