وكما قال الأستاذ بيرناد هورفي على السر المهني للأطباء في مؤلفه "الأسرار المهنية" ما معناه : " أقول ليس هناك دفاع جيد بدون اعترافات ولا اعترافات
دون ثقة ولا ثقة دون سر".
إن السر المهني للمحامي يجد سببه في الالتزام بالسرية والاحترام اللازمين للزبون من لدن المحامي الذي يطلع على حميمية هذا الأخير، وبذلك يمكن القول بأن السر المهني ليس هو امتياز للمحامي وإنما هو تحمل في خدمة المؤسسة القضائية والشرعية ودولة الحق والقانون بصفة عامة.
وإن هذا التحمل يرتكز على خاصيات الإنسان المفروض توفرها، ويرتكز على القسم المؤدى وعلى الثقة الموضوعة فيه من لدن المجتمع ككل.
إن الزامية السر المهني تعتبر من النظام العام ولا تعرف أي استثناء إلا اتجاه النقيب أو الشخص الذي يمثله ( الفصل 29 ، الفقرة 5 من النظام الداخلي).
كما أن نتيجة النظام العام تكمن في أن المتابعة الجنائية للنيابة العامة لا ترتبط بتاتا بشكاية الضحية أو بالضرر الذي أصاب هذه الأخيرة، وانه لا يحق لأحد أن يحرر المحامي من هذا الالتزام ولو كان زبونه.
ولقد أنهى مجلس النقض الفرنسي دابر الخلاف حول هذا الموضوع بمقتضى قراره الصادر بتاريخ 1844/5/11 حيث ورد فيه ما يلي :
" حيث ان المحامي كان ملزما دائما بحماية سر غير قابل للإفشاء بخصوص كل ما يصل إلى علمه وان هذا الالتزام القطعي من النظام العام، فإنه لا يتأتى لغيره الاطلاع عليه" ( 10 ).
هذا وقد أعطى القرار الصادر عن محكمة الجنايات بفرنسا (لوط و كارون) المؤرخ في 1887/12/15 تفسيرا أكثر دقة ووضوحا للطابع المطلق للسر المهني حيث جاء فيه ما يلي :
" حيث إن التخلي عن اعتبار السر المهني التزاما مطلقا لتحويله إلى التزام نسبي يعني القضاء عليه وفتح الباب لتقديرات تحكمية في حالة إباحة خرقه عند الضرورة" ( 11 )
ولقد عبر عن ذلك مجلس هيئة المحامين بباريز حسب قراره الصادر في 1887/3/8 حيث صرح بما يلي :
" يمكن للمحامي الإمساك عن القول رغم الإذن له بالحديث من لدن زبونه إذ لا يعتبر هذا الأخير الحكم الوحيد فيما يخص مصلحته، إذ ان دفاعه هو المؤهل للبت في ذلك، ذلك أن إذن الزبون إن كان ضروريا فهو ليس كاف"، وهذا هو الموقف الذي تبنته ضمنيا محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 1962/5/24 حيث ورد فيه ما يلي :
"يمكن للمحامي رفض الإدلاء بشهادة بخصوص وقائع وصلت إلى علمه بمناسبة مزاولة عمله، وان هذه القاعدة لا تعرف أي استثناء حتى و لو بلغ إلى علمه أن زبونه خرق القانون ولو كان الجنائي منه".
كما أن الالتزام بالسر المهني الذي يمس بالوضع الخاص للشخص وبالنظام العام يمكنه أن يثير إشكاليات من حيث تطبيقه في الحقل العملي، وللإحاطة بهذه الإشكاليات يتعين التطرق أولا إلى كنه ومدى السر المهني للمحامي وكذا الأشخاص المعنيين بهذا السر.
يمكن القول وبصفة إجمالية ان السر المهني له طابع مطلق ( من حيث المبدأ) وانه من النظام العام و يشمل كل ما يصل إلى علم المحامي بمناسبة مزاولته لمهنته.
وإلزامية السر المهني لا تشمل فقط تصريحات واعترافات الزبون( اذا اثارها راسا لراس مع المحامي – اما اذا اثارها بحظور آخرين فانها لا تعتبر سرا ) وإنما تشمل كل ما يصل إلى المحامي من علم، سواء بمقتضى كتابات قرأها ( وثائق مختلفة، مراسلات، الخ ...)، أو استفسارات أو استشارات أعطاها أو ملاحظات أبداها أو أتعابا قبضها، بل أكثر من ذلك فإن حتى زيارة الزبون تعتبر من الأسرار التي يجب عدم الإفصاح عنها" ( 12 ).
ومن تم كان على كل محام تم استدعاؤه كشاهد أن يرفض الإدلاء بشهادته بشأن وقائع علم بها بمناسبة مزاولته لمهنته، حتى لو رخص له بذلك موكله، ويعتبر هذا المنع مطلق سواء في القضايا المدنية أو الجنائية أو الضريبية أو غيرها. لكن السؤال المطروح هو الآتي : هل يجب على المحامي الذي يعلم بمناسبة مزاولته لعمله وشك وقوع عمل إجرامي أن يخبر بذلك السلطات المعنية أم عليه كثمان أسرار موكله؟ .
هذا هو التناقض الحاصل ما بين الفصل 446 والفصول 209 و 299 من القانون الجنائي مثلا أو الفصل 218-8 من قانون محاربة الإرهاب (ظهير 28 مايو 2003 ، ج وعدد 5112 ، 29 مايو 2003 ، صفحة 1755 ). وإذا كان السؤال دقيق ومحرج فان الجواب لا يمكنه أن يكون إلا كذلك. إلا أن البعض يرون بأن القانون الجنائي أعلى من القانون المهني ( 13 ) وهنا أيضا نجد أن إفشاء السر المهني معاقب عليه ليس فقط من قبل القانون الجنائي ( ف 446 ) ولكن أيضا من قبل القانون المنظم للمهنة والقانون الداخلي. إذن ما العمل؟ إذا أفشيت تعاقب وإذا لم تخبر تعاقب ! ، يمكن القول بأن الآراء تبقى منقسمة، وان اتجاه الآراء يذهب في الظروف الأخيرة مع الالتزام بالإخبار ما عدا إذا لم يعلم المحامي بالجريمة إلا بعد وقوعها. اما اذا جاء شخص عند المحامي ليخبره بانه سيرتكب جريمة فان هذا الشخص
لم يصبح بعد زبونا للمحامي لان الجريمة لم ترتكب بعد و ان على المحامي التزام بالاخبار.
وفي هذا المنحى تنص المادة 65 من قانون المحاماة المصري على ما يلي : "على المحامي أن يمتنع عن أداء الشهادة عن الوقائع أو المعلومات التي علم بها عن طريق مهنته إلا إذا كان ذكرها له بقصد ارتكاب جناية أو جنحة".
ومن جهة أخرى، فإن الالتزام بالسر لا ينتهي بطلب من ورثة الزبون الذي أباح بأسراره للمحامي، كما لا ينتهي بتغيير المحامي لمهنته ولا بتقاعده ولا حتى بوفاته.
وبصفة عامة فان الالتزام بالمحافظة على السر المهني يمتد إلى كل ما سمع المحامي أو قرأ أو شاهد أو عاين خلال مزاولته لمهنته، ولا حاجة للبحث فيما إذا كانت الوقائع المحمية بالسر من شأنها الإضرار بالزبون إذا ما تم إفشاؤها.
ولقد أصدرت محكمة الاستئناف ببروكسيل بتاريخ 1974/06/18 قرارا بليغا بخصوص هذا الموضوع، حيث ورد فيه ما يلي :
" إن المحامي ملزم وبشكل صارم بالاحتفاظ بالسر المفضى به اليه ، ولا يمكن له بأي حال من الأحوال ولأي سبب كان، وفي أي زمن كان خيانة هذا السر، وان السر المهني يجد أساسه في أنه يتعين على ممتهني هذه المهنة أن يعطوا الضمانات الضرورية للثقة خدمة للصالح العام حتى تتكون قناعة لمن يتوجه إليهم بأن الإفشاء بأسرارهم لهم لا يشكل خطورة عليهم وأنهم لن يفشوها للغير" ( 14).
وبذلك، فإن السر المهني هو ملك للزبون وانه وكيفما كانت مصلحة هذا الاخير فإنه لا يتأتى للمحامي ترك سر يفلت منه، هذا السر الذي ليس ملكه، وبالتالي فإن من مصلحة المحامي في هذه الحالة أن يكون فاقد الذاكرة اتجاه الغير بخصوص كل ما يقرأه أو يعاينه أو يسمعه بمناسبة مزاولته لعمله
و تتكون جنحة الفصل 446 من العناصر ال خمس التالية :
1 ) واقعة تم الكشف عنها، 2 ) يجب أن تكون الواقعة سرا، 3 ) صفة الشخص الذي أفشى السر،
4)يجب أن يكون الضنين قد توصل بالسر بمناسبة مزاولته لمهنته و 5 ) القصد الجنائي (15).
ويمكن أن يتم الإفشاء شفويا أو بواسطة الكتابة أو بواسطة إحدى وسائل الاتصال : رسائل، صحف، هاتف، تلغراف، فاكس، شبكة الانترنيت، الخ ...
إلا انه تجدر الملاحظة بان الالتزام بالسر المهني إذا كان مطلقا من حيث المبدأ، فإنه يبقى نسبي من حيث المساحة على عكس سر البوح لدى القسيس الذي يبقى مطلقا مثلا، وعلى المحامي وحسب ضميره أن يحدد الأسرار التي بإمكانه البوح بها أمام هيئة الحكم للدفاع عن موكله من التي يجب عليه كتمانها.
بالفعل فإنه على عكس الأسرار التي يتم البوح بها للقسيس والتي على هذا الاخير الاحتفاظ بها لنفسه وعدم البوح بها، فإن الأسرار التي يتم البوح بها للمحامي تكون من أجل هدف معين : فهم حالة إنسانية وبسطها أمام المحكمة. وانطلاقا من هذا المفهوم نجد الفصل 79 من القانون المصري المتعلق بمهنة المحاماة ينص على ما يلي :
" على المحامي أن يحتفظ بما يفضي به إليه موكله من معلومات ما لم يطلب منه إبداءها عن مصالحه في الدعوى"، على عكس القانون المغربي ( ف 36 ظهير 1993 ) الذي لا يفرق بين ما يمكن كتمانه وما يمكن بسطه كما لو انه يخلط ما بين السر المهني للمحامي وما بين السر المفضى به للقسيس وهو أمر غير صحيح. كما نجد طريقة تحرير الفصل 29 من النظام الداخلي فيها نقص اكثر باعتبار أن هذا الفصل ينص على أن " المحامي مدين بالكتمان المطلق للسر المهني فلا يمكنه أن يسلم للغير الوثائق المودعة لديه من طرف موكله أو يدلي بشهادة كيفما كانت لصالحه أو ضده، الالتزام بالسر المهني بالنسبة للمحامي عام ومطلق في جميع نشاطاته المهنية بدون أي تمييز أو استثناء" ، كما نجد غموضا أكبر في الفقرة 4 من نفس الفصل الذي ينص على أن المحامي "إن دعي للإدلاء بشهادة في قضية مدنية أو جنائية وجب عليه إشعار النقيب بذلك".
وتجدر الملاحظة بأنه من الممكن فهم الأمر إذا تعلق بشهادة المحامي المتعلقة بوقائع لا تهم زبونه ولا خصم هذا الأخير في قضية لا توجد بين يدي المحامي، ولكن حينما يتعلق الأمر بشهادة المحامي بخصوص قضية بين يديه سواء لصالح أو ضد موكله كان الاجتهاد القضائي والفقه متفقان دائما على انه لا يصح للمحامي الكشف عن أسرار موكليه حتى ولو كان الأمر سيؤدي إلى إظهار الحقيقة (16).
كما أن الفصل 31 من القانون التونسي المتعلق بمهنة المحاماة ينص مثلا على انه "لا يجوز للمحامي الشهادة في نزاع ينوب فيه أو استشير فيه"، ويكون الأمر على عكس ذلك إذا تعلق الأمر بالإدلاء بشهادة ليس بوصفه محاميا ولكن بمجرد شهادة في قضية لا يدافع فيها، ولكنه ملزم في هذه الحالة بإخبار النقيب.
ومن بين نتائج الالتزام بالسر المهني يأتي عدم المساس بالرسائل والوثائق المسلمة للمحامي من طرف موكله، ففي قرار صادر بتاريخ 12 مارس 1886 بتت محكمة النقض الفرنسية بكيفية لا جدال فيها حيث قالت المحكمة ان مبدأ الدفاع الحر يسيطر على المسطرة الجنائية وانه يجب إزالة جميع العراقيل بين المتهمين ومدافعيهم وانه يمنع على هؤلاء تحت طائلة تطبيق مقتضيات الفصل 378 من القانون الجنائي إفشاء الأسرار التي وصلت إلى علمهم، وانهم مرخصون بعدم الإدلاء بشهادتهم في شأنها أمام المحاكم وبالتالي فإنه يمنع حجز الوثائق والرسائل التي توصلوا بها من زبنائهم، وبالتالي كذلك يمنع حجز الرسائل المرسلة إليهم قبل أن يتوصلوا بها لأنها تكون اتصالات يجب احترامها وتحتوي على سر يجب تقديسه (17).
إن الاجتهاد القضائي لم يتسامح أبدا مع خرق السر المهني فالمحامي يرتكب خطأ مهنيا حينما يفشي علنيا كل كتاب يتصف بالسر الطبي، ودفاع المحامي عن المصالح المكلف بها لا يشكل سببا كافيا للقول بمشروعية الخرق المنسوب إليه.
فالسر المهني المتعلق بالأطباء يشمل جميع الوثائق المتعلقة بالحالة الصحية للشخص، وكون المحكمة الجنحية لم تبعد من المناقشات الوثيقة المتنازع في شأنها ليس له أي أثر على المتابعة التأديبية الموجهة ضد المحامي (18).
إن محكمة الاستئناف لمدينة آنجر في قرارها الصادر في 04/06/1983 أصدرت قرارا تأديبيا ضد محامي وذلك بتوقيفه عن مزاولة مهنته لمدة ثلاثة أشهر لأنه أخل بالالتزام بالسر المهني (19).
كما إن هيئة المحامين بباريس " لجنة قواعد المهنة" قامت بتذكير المحامين المستشارين للمقاولات الذين يتوصلوا من زبنائهم بمناسبة غلق حسابات الشركات برسائل تسألهم عن المساطر التي لازالت جارية أمام المحاكم وعن الأخطار المالية وتطالبهم فيها بإرسال جواب مباشرة للمكلف بالحسابات، لا يمكنهم إعطاء هذه المعلومات دون خرق السر المهني، إنه يلزم على المحامين بعثها للزبون الذي يبعثها لمن يشاء، ونفس الشيء يجب فعله فيما يتعلق بالمعلومات المطلوبة في حالة توقيف محاسبي قانوني وضريبي للمقاولة حينما يكون المحامين هم المستشارين لهذه المقاولة(20).
والمحامي ليس هو الملزم الوحيد بالسر المهني إذ ان جميع من يعمل معه من المحامين المتمرنين والمحامين المساعدين والكاتبات وما إلى ذلك من عمال ملزمون هم كذلك بالسر المهني، وانه لهذا السبب وجب على المحامي أن يختار أشخاصا جديري بالثقة وعليه أن يؤطرهم ويراقبهم. وإذا كان من الصعب متابعة المحامي صاحب المكتب جنائيا في حالة إفشاء سر من قبل العاملين معه فإنه من الممكن إثارة مسؤوليته بناء على نظرية مسؤولية المشغل تبعا لأخطاء أجرائه. ومن جهة أخرى فإن المجلس الأعلى وفي قرار صدر بتاريخ 6/2/1981 اعتبر بأن "إفشاء السر المهني لا يعاقب عليه إلا إذا ثبت وقوعه، وانه لا يمكن الكلام بمجرد افتراض خرق السر المهني لحرمان شخص ( ضرير) من مزاولة مهنة هو مؤهل لها قانونا" (21).
ومن بين الأسئلة التي تطرح كذالك اورد سؤال لايف ابريل (22) هو كالتالي : إذا قاضى الموكل دفاعه في إطار المسؤولية المدنية، هل يحق للمحامي الدفاع عن نفسه وذلك بالإدلاء بوثائق محمية بالسر؟ أوضح : يمكن للزبون الذي يشتكي من تقصير محاميه أن يدلي كحجة بنسخة من المراسلة التي بعث بها لهذا الأخير أو بأصل رسالة توصل بها من محاميه، وان الاجتهاد القضائي كان ولا يزال يقبل هذا باعتبار أن السر هو ملك للموكل الذي يبقى له كامل الصلاحية في إفشائه أو الاحتفاظ به. ويبقى السؤال مطروحا لمعرفة هل ان حقوق الدفاع تسمح للمحامي بالإدلاء بالوثائق السرية للدفاع عن نفسه ؟. يجب أن يكون الجواب إيجابيا مع بعض الحدود : الاقتصار في الإفشاء على مجرد حاجيات الدفاع لكي لا يحرج المدعي.
ويعتمد ابريل على القياس باجتهاد يتعلق بالمسؤولية الطبية للقول : " يجب على المدعي في دعوى المسؤولية أن يعلم انه بتسجيل دعواه فإنه يخاطر بإشاعة بعض جوانب دفاعه المشمولين عادة بالسر المهني"، ولكن يجب القول بأن الإفشاء من قبل المحامي لا يجب أن يتم إلا إذا لم يكن هنالك حل أخر